الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1025 [ ص: 24 ] حديث ثالث لابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة - مسند

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اقضه عنها .

التالي السابق


ليس عن مالك ولا عن ابن شهاب اختلاف في إسناد هذا الحديث - فيما علمت .

وقد أخبرني محمد ، حدثنا علي بن عمر الحافظ ، قال : حدثني أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن الواثق بالله ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، حدثنا شجاع بن مخلد ، حدثنا حماد ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، أن سعدا [ ص: 25 ] قال : يا رسول الله أينفع أمي أن أتصدق عنها وقد ماتت ؟ قال : نعم ، قال : فما تأمرني ؟ قال : اسق الماء .

قال ابن منيع : الصحيح في هذا الإسناد حديث النذر ، وحماد بن خالد ثقة ، ولكنه كان أميا . قال علي بن عمر : لا أعلم روى هذا غير شجاع بن مخلد ، عن حماد بن خالد .

قال أبو عمر :

قد روى هذا الحديث هشام بن عروة ، عن ابن شهاب ، حدث به الدراوردي ، عن هشام بن عروة ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، أن سعد بن عبادة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أمي هلكت وعليها نذر لم تقضه ، أفأقضيه عنها ؟ قال : نعم .

وروى عبدة بن سليمان هذا الحديث عن هشام بن عروة ، عن بكر بن وائل بن داود ، عن الزهري بإسناده مثله .

[ ص: 26 ] واختلف أهل العلم في النذر وفي حكمه ، فقال أهل الظاهر : كل من كان عليه نذر وتوفي ولم يقضه ، كان على أقعد أوليائه قضاؤه عنه واجبا بظاهر هذا الحديث ، وسواء كان في بدن أو مال .

وقال فقهاء الأمصار ليس ذلك على وليه إلا أن يوصي به ، ومحمل هذا الحديث عندهم على الندب لا على الإيجاب .

واختلفوا في النذر الذي كان على أم سعد بن عبادة المذكور في هذا الحديث ، فقالت فرقة : كان ذلك صياما نذرته ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقضيه عنها ، واستدل من قال ذلك بحديث الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أمي ماتت وعليها صوم ، أفأصوم عنها ؟ فقال : أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضيه ؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحق أن يقضى قال أبو عمر :

هذا حديث قد اختلف فيه عن الأعمش في إسناده ومتنه ، فقال فيه جماعة من رواته عنه بإسناده عن ابن عباس : قال : جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أختي ماتت وعليها صيام .

وبعضهم يقول في حديث ابن عباس هذا : إن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي ماتت وعليها صوم .

وفي هذا ما [ ص: 27 ] يدلك على أن هذا الحديث ليس ذلك الحديث ، وأن الرجل المذكور فيه ليس سعد بن عبادة ، والله أعلم . على أن هذا الحديث مضطرب ، وقد كان ابن عباس يفتي بخلافه ، فدل على أنه غير صحيح عنه . حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا حجاج الأحول ، قال : حدثنا أيوب بن موسى ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : لا يصلي أحد عن أحد ، ولا يصوم أحد عن أحد ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة .

واختلف الفقهاء فيمن مات وعليه صيام من قضاء رمضان ، أو من نذره وقد كان قادرا على صيامه ، فقال مالك : لا يصوم عنه وليه في الوجهين جميعا ، ولا يصوم أحد عن أحد ، قال مالك : وهذا أمر مجتمع عليه عندنا .

وتحصيل مذهبه أن الإطعام في ذلك واجب على الميت ، وغير واجب على الورثة ، وإن أوصى بذلك الميت كان في ثلثه .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أمكنه القضاء فلم يفعل ، أطعم عنه ورثته في النذر ، وفي قضاء رمضان جميعا ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وقد روي عن هؤلاء أنه إن لم يجد ما يطعم عنه صام عنه [ ص: 28 ] وليه ، والمشهور عنهم الإطعام دون الصيام ، وهو المعروف من مذهب الشافعي وبه قال الحسن بن حي ، وابن علية ( أن لا يصوم أحد عن أحد ، والإطعام عند أبي حنيفة والثوري والشافعي والأوزاعي والحسن بن حي ) وابن علية واجب في رأس ماله ، أوصى به أو لم يوص . وقال الليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل ، وأبو عبيد : يصوم عنه وليه في النذر ، ويطعم عنه في قضاء رمضان مدا من حنطة عن كل يوم ، والإطعام عندهم واجب في مال الميت .

وقال أبو ثور : يصوم عنه وليه في قضاء رمضان ، وفي النذر جميعا ، وحجة أبي ثور حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه .

رواه عمرو بن الحارث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن محمد ( بن جعفر ) بن الزبير ، عن عروة ، عن عائشة .

وروي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله لم يخص نذرا من غير نذر .

[ ص: 29 ] واحتج من فرق بين النذر وقضاء رمضان ، بأن سعيد بن جبير روى عن ابن عباس في قضاء رمضان : يطعم عنه ، وفي النذر يصام عنه ، وهو راوي الحديث ، وهو أعلم بتأويله .

واحتج من قال لا يصام عنه في وجه من الوجوه بما قدمنا من قول ابن عباس : لا يصوم أحد عن أحد مطلقا ، وبما روى محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن ابن عباس فيهما جميعا الإطعام ، وفي فتوى ابن عباس بخلافه ما يوهنه عند الكوفي والمدني ، قالوا لأنه لو صح عنه أو عنده لم يخالفه ، وكذلك حديث عائشة سواء ، لأنها أفتت بخلافه . روى عبد العزيز بن رفيع عن امرأة منهم يقال لها عمرة ، عن عائشة من قولها : يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام ، وقد أجمعوا أن لا يصلي أحد عن أحد والصوم في القياس مثله ، فإن ادعوا فيه أثرا عورضوا بما ذكرنا من علل الأثر في ذلك ، ولا أعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذين الوجهين ، والله أعلم .

وأما مذهب الشافعي وأبي ثور ، وأحمد في مثل هذا الأصل ، فالمصير إلى المسند عندهم أولى من قول الصاحب ، وفتواه عندهم بخلاف ما رواه ، لا حجة فيه ، وهذا الأصل قد أوضحناه في غير هذا الموضع .

وقال بعض أهل العلم : إن النذر الذي كان على أم سعد بن عبادة كان عتقا ، وكل ما كان في مال الإنسان واجبا فجائز أن يؤديه عنه [ ص: 30 ] غيره ، واستدل قائل هذا القول بحديث القاسم بن محمد ، أن سعد بن عبادة قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أمي هلكت ، فهل ينفعها أن أعتق عنها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم . قال : فهذا تفسير النذر المجمل الذي ذكره ابن عباس في حديثه .

وقال منهم قائلون : إن النذر الذي كان على أم سعد بن عبادة كان صدقة ، ورووا في ذلك آثارا قد ذكرنا بعضها ، وأكثرها في باب سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة ، وفي باب عبد الرحمن بن أبي عمرة من كتابنا هذا .

وقال آخرون : بل كان نذرا مطلقا على ظاهر حديث ابن عباس ، ومن جعل على نفسه نذرا هكذا مجملا مبهما ، فكفارته كفارة يمين عند أكثر العلماء ، وروي ذلك أيضا عن عائشة ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله وقد روي عن ابن عمر : ليس للنذر إلا الوفاء به .

وعن سعيد بن المسيب مثل ذلك . وهذا عند أهل العلم على ما قد سمي من النذر .

وروى الثوري عن أبي سلمة ، عن أبي معشر ، عن سعيد بن جبير ، ابن عمر أنه سئل عن النذر ، فقال : أفضل الأيمان ، فإن لم يجد فالتي تليها ، فإن لم يجد فالتي تليها ، يقول : الرقبة والكسوة [ ص: 31 ] فالطعام .

وروى ابن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : النذر إذا لم يسمه صاحبه فهو أغلظ الأيمان ، وله أغلظ الكفارة بعتق رقبة

. وقد روي عن ابن عباس في النذر كفارة يمين ، ولم يقل مغلظة . وعن جابر بن عبد الله وعائشة مثله .

وقال معمر ، عن قتادة : اليمين المغلظة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا

. وروى ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي : إني لأعجب ممن يقول : إن النذر يمين مغلظة .

قال الشعبي : يجزيه إطعام عشرة مساكين ، وقاله الحسن ، وذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : في النذر كفارة يمين ، قال : وقال : إبراهيم يجزئه من النذر صيام ثلاثة أيام ، قال الثوري : عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : سواء قال : علي نذر أو : لله علي نذر ، هي يمين .

[ ص: 32 ] وعن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : النذر يمين ، وعن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما قول الناس علي نذر لله ، قال : يمين ، فإن سمى نذرا فهو ما سمى ، قال ابن جريج : أخبرني عطاء أنه سمع أبا الشعثاء يقول : إن نذر الرجل ليفعلن شيئا فهو يمين ، ما لم يسم النذر ، وهو قول مالك والفقهاء .




الخدمات العلمية