الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 419 ] 23 - باب: من طلب الولد للجهاد

                                                                                                                                                                                                                              2819 - وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز قال : سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "قال سليمان بن داود - عليهما السلام - لأطوفن الليلة على مائة امرأة -أو تسع وتسعين - كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : إن شاء الله . فلم يقل : إن شاء الله ، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق رجل ، والذي نفس محمد بيده ، لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " . [3424 ، 5342 ، 6639 ، 6720 ، 7469 - فتح: 6 \ 34]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي هريرة -معلقا - فقال : "قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على مائة امرأة -أو تسع وتسعين - كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه إن شاء الله . فلم يقل : إن شاء الله ، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق رجل ، والذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " .

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث كذا أخرجه البخاري هنا معلقا وأسنده في (ستة ) مواضع منها في الأيمان والنذور عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج .

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ : "ستين امرأة " ، وفي لفظ : "سبعين " ، وفي آخر : "مائة " ; من غير شك ، وفي آخر : "تسعة وتسعين " ; من غير شك ، ولا منافاة بين هذه الروايات ; لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير ، وهو من باب مفهوم العدد ، ولا يعمل به جمهور أهل الأصول ، وفي آخر : "فقال له الملك : قل : إن شاء الله ، فلم يقل ونسي " ، وطريق الليث أخرجها أبو نعيم من

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 420 ] حديث يحيى بن بكير عنه ، وكذلك مسلم في "صحيحه " من حديثه .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك ; فالكلام عليه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : فيه : الحض على طلب الولد بنية الجهاد في سبيل الله ، وقد يكون الولد بخلاف ما أمله فيه فيكون كافرا ، ولكن قد تم له الأجر في نيته وعمله .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : أن من قال : إن شاء الله وتبرأ من المشيئة إلا لله ولم يعط (الخاصة ) لنفسه في أعماله أنه حري بأن يبلغ أمله ويعطي أمنيته ، ألا ترى أن سليمان لما لم يرد المشيئة إلى الله ولم يستثن ما لله في ذلك حرم أمله ، ولو استثنى بلغ أمله . كما أخبر الصادق ، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة فواجب ألا يبلغ أمله ، بل منهم من يشاء الله إتمام أمله ، ومنهم من لا يشاء بسابق علمه ، ولكن هذه التي أخبر عنها الصادق أنها مما لو استثنى المشيئة لتم له أمله ، فدل هذا على أن الأقدار في علم الله على ضروب ، فقد يقدر للإنسان الولد والرزق والمنزلة إن فعل كذا ، أو قال أو دعا ، فإن لم يفعل ولا قال لم يعط ذلك الشيء وأصل هذا في قصة يونس - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [الصافات :143 - 144] فبان بهذه الآية أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت ، ولو لم يسبح ما خرج منه .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : أن الاستثناء قد يكون بإثر القول ، وإن كان فيه سكوت يسير لم تنقطع به دونه الأفكار الحائلة بين الاستثناء واليمين ، وستعلم ذلك في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 421 ] رابعها : أن الأنبياء يعتريهم السهو ، نبه عليه ابن التين .

                                                                                                                                                                                                                              خامسها : قوله : ("لأطوفن " ) كذا روي هنا ، وفي رواية أخرى : "لأطيفن " ، وكلاهما صحيح كما قال المبرد ، يقال : طاف بالشيء وأطاف به وأصله : الدوران حول الشيء ، وهو (هنا ) كناية عن الجماع ، وهو قال على ما خص الله به أنبياءه من صحة البنية ، وكمال الرجولية مع ما كانوا عليه من الجد والاجتهاد في العبادة ، والعادة في مثل هذا لغيرهم الضعف عن الجماع ، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم ، كما خرقها لهم في معجزاتهم وأحوالهم ، فحصل لسليمان من الإطاقة أن يطأ في ليلة مائة امرأة ينزل في كل واحدة منهن .

                                                                                                                                                                                                                              وسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطي (فيه ) أكثر من ذلك قوى ثلاثين رجلا ، وفي "الطبقات " : أربعين . قال مجاهد : أعطي قوة أربعين رجلا كل رجل من أهل الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أوضحت الكلام عليه في "الخصائص " ، وكان إذا صلى الغداة دخل على نسائه فطاف عليهن بغسل واحد ثم يبيت عند التي هي ليلتها ، وإن روي من حديث عائشة طوافه عليهن من غير مسيس ولا مباشرة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 422 ] واللام في "لأطوفن " داخلة على جواب القسم ، وكثيرا ما تحذف معها العرب المقسم به اكتفاء بدلالتها على المقسم به ، لكنها لا تدل على مقسم معين ، ويؤيده قوله : "لو قال إن شاء الله لم يحنث " لأن عدم الحنث ووجوده لا يكون إلا عن قسم ، ويبعد أن يكون ابتدأ به ، وأن ذلك حكايته عن قول سليمان من غير قسم .

                                                                                                                                                                                                                              سادسها : قوله : ("بفارس " ) وفي رواية : "بغلام " ظاهره الجزم على أن الله تعالى يفعل ذلك لصدق رجائه في حصول الخير ، وظهور الدين والجهاد ، ولا يظن به أنه قطع بذلك على الله تعالى إلا من جهل حال الأنبياء في معرفتهم بالله وتأدبهم معه .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("فقال له صاحبه " ) يعني : الملك ، كما ذكره في النكاح ، وفي مسلم : "فقال له صاحبه أو الملك " وهو شك من (واحد من ) رواته ، وفي رواية له : "فقال لصاحبه " بالجزم من غير تردد .

                                                                                                                                                                                                                              قال القرطبي : فإن كان صاحبه فيعني به وزيره من الإنس أو من الجن ، وإن كان الملك فهو الذي كان يأتيه بالوحي ، قال : وقد أبعد من قال هو خاطره .

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي : قيل : المراد بصاحبه ، الملك ، وهو الظاهر من لفظه ، وقيل : القرين ، وقيل : صاحب له آدمي .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : الصواب الأول كما أسلفناه عن رواية البخاري في أثناء النكاح .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 423 ] سابعها : قوله : ("فلم يقل إن شاء الله " ) أي : بلسانه ، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله بقلبه ، فإنه لا يليق بمنصب النبوة ، وإنما هذا كما اتفق لنبينا - عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام - لما سئل عن الروح والخضر وذي القرنين ؟ فوعدهم أن يأتي بالجواب غدا جازما مما عنده من معرفة الله وصدقه وعده في تصديقه وإظهار كلمته ، لكنه ذهل عن النطق بها لا عن التفويض بقلبه ، فاتفق أن تأخر الوحي : عنه ورمي مما رمي لأجل ذلك ، ثم علمه الله بقوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله الآية [الكهف : 23 - 24] . فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب . وهذا لعلو مناصب الأنبياء وكمال معرفتهم بالله تعالى يعاتبون على ما لا يعاتب عليه غيرهم .

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها : قوله : ("لو قال : إن شاء الله لم يحنث " ) فيه دلالة على أنه أقسم على شيئين : الوطء والولادة ، فإنه فعل الوطء حقيقة والاستيلاد لم يتم ، إذ لو تم (الاستيلاد ) لم يقل فيه ذلك ، وهذا محمول على أنه - عليه السلام - أوحي إليه بذلك في حق سليمان ، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا ، وهذا من خصائص نبينا في اطلاعه على أخبار الأنبياء السالفة والأمم الماضية .

                                                                                                                                                                                                                              تاسعها : فيه دلالة على جواز قول : لو ولولا بعد وقوع المقدور ، و (قد ) جاء في القرآن كثير وفي كلام الصحابة والسلف ، وسيأتي ترجمة البخاري على هذا : باب ما يجوز من اللو ، وأما النهي عن ذلك وأنها تفتح عمل الشيطان فمحمول على من يقول ذلك معتمدا على الأسباب معرضا عن المقدور أو متضجرا منه وقد أوضحت ذلك

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 424 ] في "شرح العمدة " ، فإني أمعنت في شرح هذا الحديث فيه ، وهنا اقتصرنا على أطراف خشية الطول .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر : إن قلت من أين لسليمان أن الله تعالى يخلق من مائه في تلك الليلة مائة غلام لا جائز أن يكون بوحي لأنه ما وقع ، ولا أن يكون الأمر في ذلك إليه ; لأنه لا يكون إلا ما يريد ؟

                                                                                                                                                                                                                              فالجواب ما ذكره ابن الجوزي : أنه من جنس التمني على الله ، والسؤال له جل وعز أن يفعل والقسم عليه ، كقول أنس بن النضر : والله لا تكسر ثنية الربيع .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : الشارع سماه قسما فقال : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه " .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : قوله : ("فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل " ) وفي رواية : "بشق غلام " ، وفي أخرى : "نصف إنسان " ، وفي أخرى له : "فلم يحتمل شيئا إلا واحدا ساقطا إحدى شقيه " .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني عشر : قوله : ("فلم يقل " ) قد فسر في الرواية الأخرى : "فنسي " وقيل : صرف عن الاستثناء ليتم سابق حكمه تعالى ، وقيل : هو على التقديم والتأخير ، أي : فلم يقل إن شاء الله ، فقيل له : قل : إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                              تتمات :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : سليمان أحد المؤمنين اللذين ملكهما الله الدنيا كلها ، والآخر ذو القرنين ، وملكها كافران : نمروذ وبختنصر . ويقال : إنه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 425 ] ملك بعد أبيه وله اثنتا عشرة سنة من عمره ، وسخر (الله ) له الجن والإنس والطير والريح ، وكان إذا جلس في مجلسه عكفت عليه الطير ، فقام له الإنس والجن ، عاش ثلاثا وخمسين سنة .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : قال بعض المتكلمين : نبه - صلى الله عليه وسلم - هنا على آفة التمني والإعراض عن التسليم والتفويض ، قال : ومن آفته نسيانه الاستثناء ; ليمضي فيه القدر السابق كما سبق .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : في رواية للبخاري ستأتي : "وكان أرجى لحاجته " ، وفي أخرى في "الصحيح " : "وكان دركا لحاجته " ، وهو -بفتح الراء - اسم من الإدراك ، أي : لحاقا قال تعالى : لا تخاف دركا ولا تخشى [طه : 77] والمعنى أنه كان يحصل له ما أراد .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : فيه أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ ولا تكفي فيه النية ، وهو قول الأربعة والعلماء كافة ، وادعى بعضهم أن قياس قول مالك : أن اليمين تنعقد بالنية صحت الاستثناء بها من غير لفظ ومنع .

                                                                                                                                                                                                                              خامسها : جواز الإخبار عن الشيء ، ووقوعه في المستقبل بناء على الظن فإن هذا الإخبار راجع إلى ذلك ، وأجاز أصحابنا الحلف على الظن الماضي ، وقالوا : يجوز أن يحلف على خط مورثه إذا وثق بخطه ، وأمانته ، وجوزوا العمل به واعتماده .

                                                                                                                                                                                                                              سادسها : فيه استحباب التعبير باللفظ الحسن عن غيره ، فإنه عبر عن الجماع بالطواف كما سلف ، نعم لو دعت ضرورة شرعية إلى التصريح به لم يعدل عنه .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية