الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 184 ] الوجه الرابع في شروطه : فمنها أن تكون في المذكور دلالة على المحذوف ; إما من لفظه ، أو من سياقه ، وإلا لم يتمكن من معرفته ، فيصير اللفظ مخلا بالفهم ، ولئلا يصير الكلام لغزا فيهجن في الفصاحة ، وهو معنى قولهم : لا بد أن يكون فيما أبقي دليل على ما ألقي .

وتلك الدلالة مقالية وحالية : فالمقالية قد تحصل من إعراب اللفظ ; وذلك كما إذا كان منصوبا ، فيعلم أنه لا بد له من ناصب ، وإذا لم يكن ظاهرا لم يكن بد من أن يكون مقدرا ; نحو : أهلا وسهلا ومرحبا ، أي : وجدت أهلا ، وسلكت سهلا ، وصادفت رحبا ، ومنه قوله تعالى : الحمد لله ( الفاتحة : 2 ) على قراءة النصب ، وكذلك قوله : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ( النساء : 1 ) والتقدير : احمدوا الحمد ، واحفظوا الأرحام ، وكذلك قوله تعالى : صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ( البقرة : 138 ) ملة أبيكم إبراهيم ( الحج : 78 ) .

والحالية قد تحصل من النظر إلى المعنى والعلم ; فإنه لا يتم إلا بمحذوف ، وهذا يكون أحسن حالا من النظم الأول لزيادة عمومه ، كما في قولهم : فلان يحل ويربط ; أي : يحل الأمور ويربطها ، أي : ذو تصرف .

وقد تدل الصناعة النحوية على التقدير ; كقولهم في : لا أقسم بيوم القيامة ( القيامة : 1 ) إن التقدير : لأنا أقسم ; لأن فعل الحال لا يقسم عليه .

وقوله تعالى : [ ص: 185 ] تالله تفتأ تذكر يوسف ( يوسف : 85 ) التقدير : لا تفتأ ; لأنه لو كان الجواب مثبتا لدخلت اللام والنون ، كقوله : بلى وربي لتبعثن ( التغابن : 7 ) .

وهذا كله عند قيام دليل واحد ، وقد يكون هنا أدلة يتعدد التقدير بحسبها ، كما في قوله تعالى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ( فاطر : 8 ) فإنه يحتمل تقدير ثلاثة أمور : أحدها : كمن لم يزين له سوء عمله ، والمعنى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ( فاطر : 8 ) من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما ، كمن لم يزين له .

ثم كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له ذلك قال : لا ، فقيل : فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( فاطر : 8 ) .

ثانيها : تقدير : ذهبت نفسك عليهم حسرات ، فحذف الخبر لدلالة : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( فاطر : 8 ) .

ثالثها : تقدير : " كمن هداه الله " فحذف لدلالة : فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ( فاطر : 8 ) .

واعلم أن هذا الشرط إنما يحتاج إليه إذا كان المحذوف الجملة بأسرها ; نحو : قالوا سلاما ( هود : 69 ) أي : سلمنا سلاما ، أو أحد ركنيها نحو : قال سلام قوم منكرون ( الذاريات : 25 ) أي : " سلام عليكم أنتم قوم منكرون " فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية .

وأما إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه دليل ، ولكن يشترط ألا يكون في حذفه إخلال بالمعنى أو اللفظ ، كما في حذف العائد المنصوب ونحوه .

وشرط ابن مالك في حذف الجار أيضا أمن اللبس ومنع الحذف في نحو : رغبت في أن تفعل ، أو : عن أن تفعل ; لإشكال المراد بعد الحذف .

[ ص: 186 ] وأورد عليه : وترغبون أن تنكحوهن ( النساء : 127 ) فحذف الحرف .

وجوابه أن النساء يشتملن على وصفين : وصف الرغبة فيهن وعنهن ، فحذف للتعميم ، وشرط بعضهم في الدليل اللفظي أن يكون على وفق المحذوف ، وأنكر قول الفراء في قوله تعالى : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه ( القيامة : 3 - 4 ) أن التقدير : بلى حسبنا قادرين ، والحساب المذكور بمعنى الظن ، والمحذوف بمعنى العلم ; إذ التردد في الإعادة كفر ، فلا يكون مأمورا به .

ويجاب بأن الحساب المقدر بمعنى الجزم والاعتقاد ، لا بمعنى الظن ، وتقديره بذلك أولى لموافقته الملفوظ .

وقد يدل على المحذوف ذكره في مواضع أخر .

منها - وهو أقواها - : كقوله : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك ( الأنعام : 158 ) أي : أمره ، بدليل قوله : أو يأتي أمر ربك ( النحل : 33 ) .

وقوله في آل عمران : وجنة عرضها السماوات والأرض ( آل عمران : 133 ) أي : كعرض ; بدليل التصريح به في آية الحديد .

وفيه إيجاز بليغ ، فإنه إذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول ; كقوله : بطائنها من إستبرق ( الرحمن : 54 ) .

وقيل : إنما أراد التعظيم والسعة لأحقية العرض ، كقوله :

كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المظلوم كفة حابل

ومنها : ألا يكون الفعل طالبا له بنفسه ، فإن كان امتنع حذفه كالفاعل ، ومفعول ما لم يسم فاعله ، واسم كان وأخواتها ، وإنما لم يحذف لما في ذلك من نقض الغرض .

[ ص: 187 ] ومنها قال أبو الفتح بن جني : ومن حق الحذف أن يكون في الأطراف لا في الوسط ; لأن طرف الشيء أضعف من قلبه ووسطه ، قال تعالى : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ( الرعد : 41 ) وقال الطائي الكبير :

كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت     ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا

فكأن الطرفين سياج للوسط ومبذولان للعوارض دونه ، ولذلك تجد الإعلال عند التصريفيين بالحذف منها ، فحذفوا الفاء في المصادر من باب وعد ، نحو العدة والزنة والهبة ، واللام في نحو اليد والدم والفم والأب والأخ ، وقلما تجد الحذف في العين لما ذكرنا ، وبهذا يظهر لطف هذه اللغة العربية .

تنبيهات : الأول : قد توجب صناعة النحو التقدير ، وإن كان المعنى غير متوقف عليه ، كما في قوله : " لا إله إلا الله " ; فإن الخبر محذوف وقدره النحاة : بـ " موجود " أو " لنا " .

وأنكره الإمام فخر الدين ، وقال : هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير ، وتقديرهم فاسد ; لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة ، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب الماهية مع القيد ، وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر .

ولا معنى لهذا الإنكار ; فإن تقدير " في الوجود " يستلزم نفي كل إله غير الله قطعا ، فإن العدم لا كلام فيه فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة ، ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر ، ظاهرا أو مقدرا ، وإنما يقدر النحوي القواعد حقها وإن [ ص: 188 ] كان المعنى مفهوما ، وتقديرهم هنا : أو غيره ليروا صورة التركيب من حيث اللفظ مثالا لا من حيث المعنى ، ولهم تقديران : إعرابي ، وهو الذي خفي على المعترض ، ومعنوي وهو الذي ألزمه وهو غير لازم .

ومن المنكر في هذا أيضا قول ابن الطراوة : إن الخبر في هذا " إلا الله " وكيف يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة .

الثاني : اعتبر أبو الحسن في الحذف التدريج حيث أمكن ; ولهذا قال في قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ( البقرة : 48 ) إن أصل الكلام " يوم لا تجزي فيه " فحذف حرف الجر ، فصار " تجزيه " ثم حذف حرف الضمير فصار " تجزي " .

وهذا ملاطفة في الصناعة ، ومذهب سيبويه أنه حذف فيه دفعة واحدة .

وقال أبو الفتح في " المحتسب " : وقول أبي الحسن أوثق في النفس وآنس من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد .

الثالث : المشهور في قوله تعالى : فانفجرت منه ( البقرة : 60 ) أنه معطوف على جملة محذوفة ، التقدير : " فضرب فانفجرت " ودل " انفجرت " على المحذوف ، لأنه يعلم من الانفجار أنه قد ضرب .

وكذا أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ( الشعراء : 63 ) إذ لا جائز أن يحصل الانفجار والانفلاق دون ضرب .

[ ص: 189 ] وابن عصفور يقول في مثل هذا : إن حرف العطف المذكور مع المعطوف هو الذي كان مع المعطوف عليه ، وإن المحذوف هو المعطوف عليه ، وحذف حرف العطف من المعطوف ، فالفاء في " انفلق " هو فاء الفعل المحذوف وهو " ضرب " فذكرت فاؤه ، وحذف فعلها ، وذكر فعل " انفلق " وحذفت فاؤه ليدل المذكور على المحذوف ; وهو تحيل غريب .

التالي السابق


الخدمات العلمية