الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال أخبرنا الشافعي محمد بن إدريس قال : قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا غنم جند من المسلمين غنيمة في أرض العدو من المشركين فلا يقتسمونها حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحوزوها وقال الأوزاعي لم يقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أصاب فيها مغنما إلا خمسه وقسمه قبل أن يقفل من ذلك غزوة بني المصطلق وهوازن ويوم حنين وخيبر وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حين افتتحها صفية وقتل كنانة بن الربيع وأعطى أخيه دحية ثم لم يزل المسلمون على ذلك بعده وعليه جيوشهم في أرض الروم في خلافة عمر بن الخطاب وخلافة عثمان رضي الله عنهما في البر والبحر ثم هلم جرا وفي أرض الشرك حين هاجت الفتنة وقتل الوليد قال أبو يوسف رحمه الله تعالى أما غزوة بني المصطلق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح بلادهم وظهر عليهم فصارت بلادهم دار الإسلام وبعث الوليد بن عقبة فأخذ صدقاتهم وعلى هذه الحال كانت خيبر حين افتتحها وصارت دار الإسلام وعاملهم على النخل وعلى هذا كانت حنين وهوازن ولم يقسم فيء حنين إلا بعد منصرفه عن الطائف حين سأله الناس وهم بالجعرانة أن يقسمه بينهم .

فإذا ظهر الإمام على دار وأثخن أهلها فيجري حكمه عليها فلا بأس أن يقسم الغنيمة فيها قبل أن يخرج وهذا قول أبي حنيفة أيضا وإن كان [ ص: 353 ] مغيرا فيها لم يظهر عليها ولم يجر حكمه فإنا نكره أن يقسم فيها غنيمة أو فيئا من قبل أنه لم يحرزه ومن قبل أنه لو دخل جيش من جيوش المسلمين مددا لهم شاركوهم في تلك الغنيمة ومن قبل أن المشركين لو استنقذوا ما في أيديهم ثم غنمه جيش آخر من جيوش المسلمين بعد ذلك لم يرد على الأولين منه شيء وأما ما ذكر عن المسلمين أنهم لم يزالوا يقسمون مغانمهم في خلافة عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما في أرض الحرب فإن هذا ليس يقبل إلا عن الرجال الثقات فعمن هذا الحديث وعمن ذكره وشهده وعمن روى ؟ ونقول أيضا إذا قسم الإمام في دار الحرب فقسمه جائز فإن لم يكن معه حمولة يحمل عليها المغنم أو احتاج المسلمون إليها أو كانت علة فقسم لها المغنم ورأى أن ذلك أفضل فهو مستقيم جائز غير أن أحب ذلك إلينا وأفضله أن لا يقسم شيئا من ذلك إذا لم يكن به إليه حاجة حتى يخرجه إلى دار الإسلام . قال أبو يوسف عن مجاهد بن سعيد عن الشعبي عن عمر أنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص إني قد أمددتك بقوم فمن أتاك منهم قبل تنفق القتلى فأشركه في الغنيمة .

قال أبو يوسف وهذا يعلم أنهم لم يحرزوا ذلك في أرض الحرب قال محمد بن إسحاق سئل عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنزلت { يسألونك عن الأنفال } الآية انتزعه منا حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فجعله الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم يجعله حيث شاء . قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وذلك عندنا لأنهم لم يحرزوه ويخرجوه إلى دار الإسلام الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم غنائم بدر إلا من بعد مقدمه المدينة والدليل على ذلك أنه ضرب لعثمان وطلحة في ذلك بسهم سهم فقالا وأجرنا فقال وأجركما ولم يشهدا وقعة بدر } أشياخنا عن الزهري ومكحول { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يقسم غنيمة في دار الحرب } قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وأهل الحجاز يقضون بالقضاء فيقال لهم عمن ؟ فيقولون بهذا جرت السنة وعسى أن يكون قضى به عامل السوق أو عامل ما من الجهات وقول الأوزاعي على هذا كانت المقاسم في زمان عمر وعثمان رضي الله عنهما وهلم جرا غير مقبول عندنا الكلبي من حديث رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه بعث عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة فأصاب هنالك عمرو بن الحضرمي وأصاب أسيرا أو اثنين وأصاب ما كان معهم من أدم وزيت وتجارة من تجارة أهل الطائف فقدم بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقسم ذلك عبد الله بن جحش حتى قدم المدينة وأنزل الله عز وجل في ذلك { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } حتى فرغ من الآية فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم المغنم وخمسه } محمد بن إسحاق عن مكحول عن الحارث بن معاوية قال قيل لمعاذ بن جبل إن شرحبيل ابن حسنة باع غنما وبقرا أصابها بقنسرين نحلها الناس وقد كان الناس يأكلون ما أصابوا من المغنم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبيعونه فقال معاذ لم شرحبيل إذا لم يكن المسلمون محتاجين إلى لحومها فقووا على خلتها فليبيعوها فليكن ثمنها في الغنيمة والخمس وإن كان المسلمون محتاجين إلى لحومها فلتقسم عليهم فيأكلونها { فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أموال أهل خيبر وفيها الغنم والبقر فقسمها وأخذ الخمس وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم الناس ما أصابوا من الغنم والبقر إذا كانوا محتاجين } .

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى القول ما قال الأوزاعي وما احتج به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف عند أهل المغازي لا [ ص: 354 ] يختلفون في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غير مغنم في بلاد الحرب فأما ما احتج به أبو يوسف من أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على بني المصطلق وصارت دارهم دار إسلام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وهم غارون في نعمهم فقتلهم وسباهم وقسم أموالهم وسبيهم في دارهم سنة خمس وإنما أسلموا بعدها بزمان وإنما بعث إليهم الوليد بن عقبة مصدقا سنة عشر وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ودارهم دار حرب وأما خيبر فما علمته كان فيها مسلم واحد وما صالح إلا اليهود وهم على دينهم إن ما حول خيبر كله دار حرب وما علمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقلت من موضعها حتى تقسم ما ظهرت عليه ولو كان الأمر كما قال لكان قد أجاز أن يقسم الوالي ببلاد الحرب فدخل فيما عاب وأما حديث مجالد عن الشعبي عن عمر أنه قال من جاءك منهم قبل تنفق القتلى فأسهم له فهو إن لم يكن ثابتا داخل فيما عاب على الأوزاعي فإنه عاب عليه غير الثقات المعروفين ما علمت الأوزاعي قال عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا إلا ما هو معروف ، ولقد احتج على الأوزاعي بحديث رجال وهو يرغب عن الرواية عنهم فإن كان حديث مجالد ثابتا فهو يخالفه هو يزعم أن المدد إذا جاءه ولما يخرج المسلمون من بلاد الحرب والقتلى نظراؤهم لم ينفقوا ولا ينفقون بعد ذلك بأيام لم يكن لهم سهم مع أهل الغنيمة فلو كانت الغنيمة عنده إنما تكون للأولين دون المدد إذا نفقت القتلى انبغى أن يعطي المدد ما بينهم وبين أن تنفق القتلى قال وبلغني عنه أنه قال وإن قسم ببلاد الحرب كان جائزا وهذا ترك لقوله ودخول فيما عاب على الأوزاعي وبلغني عنه أنه قال وإن قسم ببلاد الحرب ثم جاء المدد قبل تنفق القتلى لم يكن للمدد شيء وهذا يناقض قوله وحجته عليه بحديث عن عمر لا يأخذ به ويدعه من كل وجه وقد بلغني عنه أنه قال وإن نفقت القتلى وهم في بلاد الحرب لم يخرجوا منها ولم يقتسموا شركهم المدد وكل هذا القول خروج مما احتج به .

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإنما الغنيمة لمن شهد الوقعة لا للمدد وكذلك روى عن أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وأما ما احتج به من { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم غنائم بدر حتى ورد المدينة } وما ثبت من الحديث بأن قال والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لعثمان وطلحة رضي الله تعالى عنهما ولم يشهدا بدرا فإن كان كما قاله فهو يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لأنه يزعم أن ليس للإمام أن يعطي أحدا لم يشهد الوقعة وليس كما قال غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر بسير شعب من شعاب الصحراء قريب من بدر وكانت غنائم بدر كما يروي عبادة بن الصامت غنمها المسلمون قبل أن تنزل الآية في سورة الأنفال فلما تشاحوا عليها انتزعها الله من أيديهم بقوله عز وجل { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلها خالصة وقسمها بينهم وأدخل معهم ثمانية نفر لم يشهدوا الوقعة من المهاجرين والأنصار وهم بالمدينة وإنما أعطاهم من ماله وإنما نزلت { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } بعد غنيمة بدر ولم يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لخلق لم يشهدوا الوقعة بعد نزول الآية ومن أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤلفة وغيرهم فإنما من ماله أعطاهم لا من شيء من أربعة الأخماس وأما ما احتج به من وقعة عبد الله بن جحش وابن الحضرمي فذلك قبل بدر وقبل نزول الآية وكانت وقعتهم في آخر يوم من الشهر الحرام فوقفوا فيما صنعوا حتى نزلت { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } وليس مما خالفه فيه الأوزاعي بسبيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية