الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد اعترض أبو الثناء الأرموي على هذا بأنه "ليس شيء من الحركات الجزئية أزليا، بل كل واحدة منها حادثة، وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية، وهي ليست مسبوقة بغيرها، فلا يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول".

وبيان هذا الاعتراض - فيما ذكره الآمدي - أن يقال: قوله: "إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل، أو لا وجود لشيء منها في الأزل" جوابه: أنه ليس شيء بعينه موجودا في الأزل، ولكن الجنس لم يزل متعاقبا، وحينئذ يندفع ما ذكره على التقديرين: أما الأول فإنه قال: لو كان شيء منها موجودا في الأزل لكان مسبوقا بالعدم غير مسبوق بالعدم، وهذا إنما يلزم إذا قيل في واحد من الحوادث المتعاقبة: إنه قديم أزلي، وهذا لا يقوله عاقل.

وأما التقدير الثاني: فقوله: "وإن كان الثاني، فقول القائل: العلل والمعلومات المتعاقبة أو غيرها من الحوادث المتعاقبة تكون مسبوقة بالعدم" إنما يلزم إذا قيل: إن جنسها ليس بقديم ولا أزلي، وهذا محل النزاع.

وحقيقة الأمر أن قول القائل: "إما أن يقال بوجود شيء منها في [ ص: 58 ] الأزل، أو لا وجود لشيء منها في الأزل" معناه: إما أن شيئا منها قديم أزلي، أو ليس شيء منها قديما أزليا. وهذا اللفظ محتمل، فإن أراد به أن واحدا من الحوادث المتعاقبة يكون قديما أزليا، فهذا لا يقولونه، وإن أراد أن جنسها لم يزل يحدث شيئا بعد شيء، وأنه لا أول للجنس، بل الجنس قديم أزلي، فهذا هو الذي يقولونه. وحينئذ فلا يلزم من نفي الأزلية عن واحد نفيها عن الجنس.

وذلك أن معنى الأزل ليس هو شيئا له ابتداء محدود حتى يقال: هل حصل شيء منها في ذلك المبدأ المحدود؟ بل معنى الأزل هو معنى القدم، ومعناه: ما لا ابتداء لوجوده، ولا يقدر الذهن غاية إلا كان قبل تلك الغاية، فإذا قال القائل: "هل وجد شيء من هذه الحوادث في الأزل" كان معناه: هل منها قديم لا أول لوجوده لم يزل موجودا؟

والمثبت لذلك إنما يقول: لم يزل الجنس موجودا شيئا بعد شيء، كما يقوله المسلمون وجمهور الناس غيرهم في الأبد، فيقولون: إنه لا يزال جنس الحوادث يحدث شيئا بعد شيء، فلو قال القائل: "الحوادث المنقضية لا تكون أبدية ولا تكون فيما لا يزال، لأنه إما أن يوجد شيء منها في الأبد، أو لا وجود لشيء منها في الأبد، فإن كان الأول فهو ممتنع، لأن الأبدي لا يكون منقضيا، بل لا يزال موجودا، وإن كان الثاني فجملة المنقضيات ملحوقة بالعدم، وما كان ملحوقا بالعدم لم يكن أبديا، لأن الأبدي هو ما لا يلحقه العدم، كما أن الأزلي ما لا يسبقه العدم" كان الجواب عن قول هذا القائل بأن يقال: الأبدي [ ص: 59 ] هو جنس الحوادث المنقضية، لا واحد واحد منها. والجنس لا يلحقه العدم وإن لحق آحاده، كما قال تعالى: إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [سورة ص: 54] وقال تعالى: أكلها دائم] [سورة الرعد: 35] فالدائم: هو الجنس، وكذلك الذي لا نفاد له هو الجنس. لا كل واحد من أعيان الرزق والمأكولات.

التالي السابق


الخدمات العلمية