الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الثاني : الاكتفاء ، وهو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط ; فيكتفى بأحدهما عن الآخر ، ويخص بالارتباط العطفي غالبا ; فإن الارتباط خمسة أنواع : وجودي ، ولزومي ، وخبري ، وجوابي ، وعطفي .

[ ص: 191 ] ثم ليس المراد الاكتفاء بأحدهما كيف اتفق ; بل لأن فيه نكتة تقتضي الاقتصار عليه .

والمشهور في مثال هذا النوع قوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر ( النحل : 81 ) أي : والبرد ، هكذا قدروه ، وأوردوا عليه سؤال الحكمة من تخصيص الحر بالذكر ، وأجابوا بأن الخطاب للعرب ، وبلادهم حارة ، والوقاية عندهم من الحر أهم ; لأنه أشد من البرد عندهم .

والحق أن الآية ليست من هذا القسم ; فإن البرد ذكر الامتنان بوقايته قبل ذلك صريحا في قوله : ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ( النحل : 80 ) وقوله : وجعل لكم من الجبال أكنانا ( النحل : 81 ) وقوله في صدر السورة : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ( النحل : 5 ) .

فإن قيل : فما الحكمة في ذكر الوقايتين بعد قوله : والله جعل لكم مما خلق ظلالا ( النحل : 81 ) فإن هذه وقاية الحر ، ثم قال : وجعل لكم من الجبال أكنانا ( النحل : 81 ) فهذه وقاية البرد على عادة العرب ؟ قيل : لأن ما تقدم بالنسبة إلى المساكن وهذه إلى الملابس ، [ نعم اعملوا في الآية ] ، وقوله : وجعل لكم من الجبال أكنانا ( النحل : 81 ) ولم يقل السهل وفيه الجوابان السابقان .

وأمثلة هذا القسم كثيرة ; كقوله تعالى : وله ما سكن في الليل والنهار ( الأنعام : 13 ) فإنه قيل : المراد : " وما تحرك " وإنما آثر ذكر السكون ; لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد ، ولأن الساكن أكثر عددا من المتحرك ، أو لأن كل متحرك يصير إلى السكون ، ولأن السكون هو الأصل والحركة طارئة .

[ ص: 192 ] وقوله : بيدك الخير ( آل عمران : 26 ) تقديره : " والشر " إذ مصادر الأمور كلها بيده جل جلاله ، وإنما آثر ذكر الخير ; لأنه مطلوب العباد ومرغوبهم إليه ; أو لأنه أكثر وجودا في العالم من الشر ; ولأنه يجب في باب الأدب ألا يضاف إلى الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلم : والشر ليس إليك .

وقيل : إن الكلام إنما ورد ردا على المشركين فيما أنكروه مما وعده الله به على لسان جبريل من فتح بلاد الروم وفارس ، ووعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك ، فلما كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال .

وقوله : الذين يؤمنون بالغيب ( البقرة : 3 ) أي : والشهادة ; لأن الإيمان بكل منهما واجب ، وآثر الغيب لأنه أبدع ، ولأنه يستلزم الإيمان بالشهادة من غير عكس .

ومثله : أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب ( الجن : 25 - 26 ) أي : والشهادة بدليل التصريح به في موضع آخر .

وقوله : يكاد البرق يخطف أبصارهم ( البقرة : 20 ) فإنه سبحانه ذكر أولا الظلمات والرعد والبرق ، وطوى الباقي .

ومنه قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ( الإسراء : 67 ) أي : والبر ، وإنما آثر ذكر البحر لأن ضرره أشد .

وقوله : وما بينهما ورب المشارق ( الصافات : 5 ) أي : والمغارب .

وقوله : لا يسألون الناس إلحافا ( البقرة : 273 ) أي : ولا غير إلحاف .

وقوله : من أهل الكتاب أمة قائمة ( آل عمران : 113 ) أي : وأخرى غير قائمة .

[ ص: 193 ] وقوله : ولتستبين سبيل المجرمين ( الأنعام : 55 ) أي : والمؤمنين .

وقوله : هدى للمتقين ( البقرة : 2 ) أي : والكافرين ، قاله ابن الأنباري ، ويؤيده قوله : هدى للمتقين ( البقرة : 185 ) .

وقوله : ولا تكونوا أول كافر به ( البقرة : 41 ) ، قيل : المعنى : وآخر كافر به ، فحذف المعطوف لدلالة قوة الكلام ، من جهة أن أول الكفر وآخره سواء ، وخصت الأولوية بالذكر لقبحها بالابتداء .

وقوله : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن ( الملك : 19 ) أي : ويبسطن ، قاله الفارسي .

وحكى في " التذكرة " عن بعض أهل التأويل في قوله تعالى : أكاد أخفيها لتجزى ( طه : 15 ) أن المعنى : " أكاد أظهرها أخفيها لتجزى " فحذف " أظهرها " لدلالة أخفيها عليه .

قال : وعندي أن المعنى " أزيل خفاءها " فلا حذف .

وقوله : لا نفرق بين أحد من رسله ( البقرة : 285 ) أي : بين أحد وأحد .

وقوله : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ( الحديد : 10 ) أي : ومن أنفق بعده وقاتل ; لأن الاستواء يطلب اثنين ; وحذف المعطوف لدلالة الكلام عليه ; ألا تراه قال بعده : أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ( الحديد : 10 ) .

وقوله : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ( النساء : 172 ) أي : ومن لا يستنكف ولا يستكبر ; بدليل التقسيم بعده بقوله : فأما الذين آمنوا ( النساء : 173 ) وأما الذين استنكفوا ( النساء : 173 ) .

[ ص: 194 ] وقوله : ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ( الأعراف : 17 ) فاكتفى هنا بذكر الجهات الأربع عن الجهتين .

وقوله : إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ( فصلت : 14 ) الاكتفاء بجهتين عن سائرها .

وقوله : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ( الشعراء : 22 ) أي : ولم تعبدني .

وقوله : إن امرؤ هلك ليس له ولد ( النساء : 176 ) أي : ولا والد ، بدليل أنه أوجب للأخت النصف ، وإنما يكون ذلك مع فقد الأب ، فإن الأب يسقطها .

وقوله : فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ( القصص : 67 ) ولم يذكر القسم الآخر الذي تقتضيه " أما " إذ وضعها لتفصيل كلام مجمل ، وأقل أقسامها قسمان ، ولا ينفك عنهما في جميع القرآن إلا في موضعين هذا أحدهما ، والتقدير : وأما من لم يتب ولا يؤمن ولم يعمل صالحا فلا يكون من المفلحين ، والثاني في آل عمران : فأما الذين في قلوبهم زيغ ( آل عمران : 7 ) إلى قوله : إلا الله ( آل عمران : 7 ) هذا أحد القسمين ، والقسم الثاني ما بعده ، وتقديره : وأما الراسخون في العلم فيقولون .

وقوله : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ( البقرة : 59 ) أي : وفعلا غير الذي أمروا به ; لأنهم أمروا بشيئين : بأن يدخلوا الباب سجدا ، وبأن يقولوا حطة ; فبدلوا القول في " حنطة " " حطة " ، وبدلوا الفعل بأن دخلوا يزحفون على أستاههم ، ولم يدخلوا ساجدين ، والمعنى : إرادتنا حطة ، أي : حط عنا ذنوبنا .

وقوله : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ( فاطر : 19 - 20 - 21 ) [ ص: 195 ] قال ابن عطية : دخول " لا " على نية التكرار ; كأنه قال : ولا الظلمات ولا النور ولا النور والظلمات ، واستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ; ودل بمذكور الكلام على متروكه .

وقوله : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ( البقرة : 187 ) فإن قيل : ليس للفجر خيط أسود ، إنما الأسود من الليل .

فأجيب : إن من الفجر ( البقرة : 187 ) متصل بقوله : الخيط الأبيض ( البقرة : 187 ) والمعنى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل ; لكن حذف " من الليل " لدلالة الكلام عليه ، ثم لوقوع الفجر في موضعه ; لأنه لا يصح أن يكون من الفجر متعلقا بالخيط الأسود ; ولو وقع من الفجر في موضعه متصلا بالخيط الأبيض لضعفت الدلالة على المحذوف ; وهو " من الليل " فحذف " من الليل " للاختصار ، وأخر " من الفجر " للدلالة عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية