الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول .

هذه الجمل بيان لما في جملة ألم تر كيف فعل ربك من الإجمال ، وسمى حربهم كيدا ; لأنه عمل ظاهره الغضب من فعل الكناني الذي قعد في القليس ، وإنما هو تعلة تعللوا بها لإيجاد سبب لحرب أهل مكة وهدم الكعبة لينصرف العرب إلى حج القليس في صنعاء فيتنصروا .

أو أريد بكيدهم بناؤهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء .

والكيد : الاحتيال على إلحاق ضر بالغير ومعالجة إيقاعه .

والتضليل : جعل الغير ضالا ، أي : لا يهتدي لمراده ، وهو هنا مجاز في الإبطال وعدم نوال المقصود ; لأن ضلال الطريق عدم وصول السائر .

وظرفية الكيد في التضليل مجازية ، استعير حرف الظرفية لمعنى المصاحبة [ ص: 549 ] الشديدة ، أي : أبطل كيدهم بتضليل ، أي : مصاحبا للتضليل لا يفارقه ، والمعنى : أنه أبطله إبطالا شديدا ، إذ لم ينتفعوا بقوتهم مع ضعف أهل مكة وقلة عددهم . وهذا كقوله تعالى : وما كيد فرعون إلا في تباب أي : ضياع وتلف ، وقد شمل تضليل كيدهم جميع ما حل بهم من أسباب الخيبة وسوء المنقلب .

وجملة وأرسل عليهم طيرا أبابيل يجوز أن تجعل معطوفة على جملة فعل ربك بأصحاب الفيل ، أي : وكيف أرسل عليهم طيرا من صفتها كيت وكيت ، فبعد أن وقع التقرير على ما فعل الله بهم من تضليل كيدهم عطف عليه تقرير بعلم ما سلط عليهم من العقاب على كيدهم تذكيرا بما حل بهم من نقمة الله تعالى ، لقصدهم تخريب الكعبة ، فذلك من عناية الله ببيته لإظهار توطئته لبعثة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بدينه في ذلك البلد ، إجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام - فكما كان إرسال الطير عليهم من أسباب تضليل كيدهم ، كان فيه جزاء لهم ، ليعلموا أن الله مانع بيته ، وتكون جملة ألم يجعل كيدهم في تضليل معترضة بين الجملتين المتعاطفتين .

ويجوز أن تجعل وأرسل عليهم عطفا على جملة ألم يجعل كيدهم في تضليل فيكون داخلا في حيز التقرير الثاني بأن الله جعل كيدهم في تضليل ، وخص ذلك بالذكر لجمعه بين كونه مبطلا لكيدهم وكونه عقوبة لهم ، ومجيئه بلفظ الماضي باعتبار أن المضارع في قوله : ألم يجعل كيدهم في تضليل قلب زمانه إلى المضي لدخول حرف ( لم ) كما تقدم في قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى في سورة الضحى ، فكأنه قيل : أليس جعل كيدهم في تضليل .

والطير : اسم ، جمع طائر ، وهو الحيوان الذي يرتفع بالجو بعمل جناحيه . وتنكيره للنوعية ; لأنه نوع لم يكن معروفا عند العرب . وقد اختلف القصاصون في صفته اختلافا خياليا . والصحيح ما روي عن عائشة : أنها أشبه شيء بالخطاطيف ، وعن غيرها أنها تشبه الوطواط .

وأبابيل : جماعات . قال الفراء وأبو عبيدة : أبابيل اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل عباديد وشماطيط وتبعهما الجوهري ، وقال الرؤاسي والزمخشري : واحد [ ص: 550 ] أبابيل إبالة مشددة الموحدة مكسورة الهمزة . ومنه قولهم في المثل : ضغث على إبالة ، وهي الحزمة الكبيرة من الحطب ، وعليه فوصف الطير بأبابيل على وجه التشبيه البليغ .

وجملة ( ترميهم ) حال من ( طيرا ) وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة في زمن الحال ومنه قوله تعالى : ( والله الذي أرسل الريح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ) الآية .

وحجارة : اسم جمع حجر .

وعن ابن عباس قال : طين في حجارة ، وعنه أن سجيل معرب ( سنك كل ) من الفارسية ، أي : عن كلمة ( سنك ) وضبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف ، اسم الحجر ، وكلمة ( كل ) بكسر الكاف اسم الطين وجموع الكلمتين يراد به الآجر .

وكلتا الكلمتين بالكاف الفارسية المعمدة وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف ، ولذلك تكون ( من ) بيانية ، أي : حجارة هي سجيل ، وقد عد السبكي كلمة سجيل في منظومته في المعرب الواقع في القرآن .

وقد أشار إلى أصل معناه قوله تعالى : لنرسل عليهم حجارة من طين مع قوله في آيات أخر حجارة من سجيل فعلم أنه حجر أصله طين .

وجاء نظيره في قصة قوم لوط في سورة هود وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود وفي سورة الحجر فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل فتعين أن تكون الحجارة التي أرسلت على أصحاب الفيل من جنس الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ، أي : ليست حجرا صخريا ولكنها طين متحجر دلالة على أنها مخلوقة لعذابهم .

قال ابن عباس : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده ، فكان ذلك أول الجدري . وقال عكرمة : إذا أصاب أحدهم منها خرج به الجدري .

[ ص: 551 ] وقد قيل : إن الجدري لم يكن معروفا في مكة قبل ذلك .

وروي أن الحجر كان قدر الحمص ، روى أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي قال : رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص حمرا بحتمة ( أي سوداء ) كأنها جزع ظفار . وعن ابن عباس : أنه رأى من هذه الحجارة عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة بالجزع الظفاري .

والعصف : ورق الزرع وهو جمع عصفة . والعصف إذا دخلته البهائم فأكلته داسته بأرجلها وأكلت أطرافه وطرحته على الأرض بعد أن كان أخضر يانعا . وهذا تمثيل لحال أصحاب الفيل بعد تلك النضرة والقوة كيف صاروا متساقطين على الأرض هالكين .

التالي السابق


الخدمات العلمية