الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

[ بيان حيلة العقارب وإبطالها ]

ومن الحيل المحرمة الباطلة الحيل التي تسمى حيلة العقارب ، ولها صور ; منها : أن يوقف داره أو أرضه ويشهد على وقفها ويكتمه ثم يبيعها ، فإذا علم أن المشتري قد سكنها أو استغلها بمقدار ثمنها أظهر كتاب الوقف وادعى على المشتري بأجرة المنفعة ، فإذا قال له المشتري : أنا وزنت الثمن ، قال : وانتفعت بالدار والأرض فلا تذهب المنفعة مجانا ، ومنها : أن يملكها لولده أو امرأته ، ويكتم ذلك ، ثم يبيعها ، ثم يدعي بعد ذلك من ملكها على المشتري ، ويعامله تلك المعاملة وضمنه المنافع تضمين الغاصب .

ومنها : أن يؤجرها لولده أو امرأته ، ويكتم ذلك ، ثم يؤجرها من شخص آخر ، فإن ارتفع الكري أخرج الإجارة الأولى ، وفسخ إجارة الثاني ، وإن نقص الكري أو استمر أبقاها ; ومنها : أن يرهن داره أو أرضه ، ثم يبيعها ويأخذ الثمن فينتفع به مدة ، فمتى أراد فسخ البيع واسترجاع المبيع أظهر كتاب الرهن .

وأمثال هذه العقارب التي يأكل بها أشباه العقارب أموال الناس بالباطل ، ويمشيها لهم من رق علمه ودينه ولم يراقب الله ولم يخف مقامه تقليدا لمن قلد قوله في تضمين المقبوض بالعقد الفاسد تضمين الغاصب ; فيجعل قوله إعانة لهذا الظالم المعتدي على الإثم والعدوان ، ولا يجعل القول الذي قاله غيره إعانة للمظلوم على البر والتقوى ، وكأنه أخذ بشق الحديث وهو : { انصر أخاك ظالما أو مظلوما } .

واكتفى بهذه الكلمة دون ما بعدها ، وقد أعاذ الله أحدا من الأئمة من تجويز الإعانة على الإثم والعدوان ، ونصر الظالم ، وإضاعة حق المظلوم جهارا .

وذلك الإمام وإن قال : " إن المقبوض بالعقد الفاسد يضمن ضمان المغصوب " فإنه لم يقل : إن المقبوض به على هذا الوجه - الذي هو حيلة ومكر وخداع وظلم محض للمشتري وغرور له - يوجب تضمينه وضياع حقه وأخذ ماله كله وإيداعه في الحبس على ما بقي وإخراج الملك من يده ، فإن الرجل قد يشتري الأرض أو العقار وتبقى في يده مدة طويلة تزيد أجرتها على ثمنها أضعافا مضاعفة ، فيؤخذ منه العقار ، ويحسب عليه ثمنه من الأجرة ، ويبقي الباقي بقدر الثمن مرارا ، فربما أخذ ما فوقه وما تحته وفضلت [ ص: 247 ] عليه فضلة ، فيجتاح الظالم الماكر ماله ويدعه على الأرض الخالية ، فحاشا إماما واحدا من أئمة الإسلام أن يكون عونا لهذا العقرب الخبيث على هذا الظلم والعدوان ، والواجب عقوبة مثل هذا العقوبة التي تردعه عن لدغ الناس والتحيل على استهلال أموال الناس ، وأن لا يمكن من طلب عوض المنفعة .

أما على أصل من لا يضمن منافع الغصب - وهم الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أصحهما دليلا - فظاهر ، وأما من يضمن الغاصب كالشافعي وأحمد في الرواية الثانية فلا يتأتى تضمين هذا على قاعدته ; فإنه ليس بغاصب ، وإنما استوفى المنفعة بحكم العقد ، فإذا تبين أن العقد باطل وأن البائع غره لم يجب عليه ضمان ، فإنه إنما دخل على أن ينتفع بلا عوض ، وأن يضمن المبيع بثمنه لا بقيمته ; فإذا تلف المبيع بعد القبض تلف من ضمانه بثمنه ، فإذا انتفع به انتفع بلا عوض ; لأنه على ذلك دخل ، ولو قدر وجوب الضمان فإن الغار هو الذي يضمن ; لأنه تسبب إلى إتلاف مال الغير بغروره ، وكل من أتلف مال غيره بمباشرة أو سبب فإنه يضمنه ولا بد .

ولا يقال : المشتري هو الذي باشر الإتلاف ، وقد وجد متسبب ومباشر ، فيحال الحكم على المباشر ; فإن هذا غلط محض هاهنا ; فإن المضمون هو مال المشتري الذي تلف عليه بالتضمين ، وإنما تلف بتسبب الغار ، وليس هاهنا مباشر يحال عليه الضمان .

فإن قيل : فهذا إنما يدل على أنا إذا ضمنا المغرور فهو يرجع على الغار ، ولا يدل على تضمين الغار ابتداء .

قيل : هذا فيه قولان للسلف والخلف ، وقد نص الإمام أحمد على أن من اشترى أرضا فبنى فيها أو غرس ثم استحقت فللمستحق قلع ذلك ، ثم يرجع المشتري على البائع بما نقص ، ونص في موضع آخر أنه ليس للمستحق قلعه إلا أن يضمن نقصه ثم يرجع به على البائع ، وهذا أفقه النصين وأقربهما إلى العدل ; فإن المشتري غرس وبنى غراسا وبناء مأذونا فيه ، وليس ظالما به ، فالعرق ليس بظالم ، فلا يجوز للمستحق قلعه حتى يضمن له نقصه ، والبائع هو الذي ظلم المستحق ببيعه ماله وغر المشتري ببنائه وغراسه ; فإذا أراد المستحق الرجوع في عين ماله ضمن للمغرور ما نقص بقلعه ثم يرجع به على الظالم ، وكان تضمينه له أولى من تضمين المغرور ثم تمكينه من الرجوع على الغار .

ونظير هذه المسألة ما لو قبض مغصوبا من غاصب ببيع أو عارية أو اتهاب أو إجارة وهو يظن أنه مالك لذلك أو مأذون له فيه ففيه قولان ; أحدهما : أن المالك مخير بين تضمين أيهما شاء ، وهذا [ ص: 248 ] المشهور عند أصحاب الشافعي وأحمد ، ثم قال أصحاب الشافعي : إن ضمن المشتري وكان عالما بالغصب لم يرجع بما ضمن على الغاصب ، وإن لم يعلم نظرت فيما ضمن فإن التزم ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب ; لأن الغاصب لم يغره ، بل دخل معه على أن يضمنه .

وهذا التعليل يوجب أن يرجع بما زاد على ثمن المبيع إذا ضمنه ; لأنه إنما التزم ضمانه بالثمن لا بالقيمة ، فإذا ضمنه إياه بقيمته رجع بما بينهما من التفاوت .

قالوا : وإن لم يلتزم ضمانه نظرت ; فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع به على الغاصب لأنه غره ودخل معه على أنه لا يضمنه ، وإن حصلت له به في مقابلته منفعة كالأجرة والمهر وأرش البكارة ففيه قولان ; أحدهما : يرجع به ; لأنه غره ولم يدخل معه على أن يضمنه .

والثاني : لا يرجع ; لأنه حصل له في مقابلته منفعة ، وهذا التعليل أيضا يوجب على هذا القول أن يرجع بالتفاوت الذي بين المسمى ومهر المثل وأجرة المثل اللذين ضمنهما ; فإنه إنما دخل على الضمان بالمسمى ، لا بعوض المثل ، والمنفعة التي حصلت له إنما هي بما التزمه من المسمى ، ومذهب الإمام أحمد وأصحابه نحو ذلك .

وعقد الباب عندهم أنه يرجع إذا غره على الغاصب بما لم يلتزم ضمانه خاصة ، فإذا غرم وهو مودع أو متهب قيمة العين والمنفعة رجع بهما ; لأنه لم يلتزم ضمانا ، وإن ضمن وهو مستأجر قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة العين والقدر الزائد على ما بذله من عوض المنفعة .

وقال أصحابنا : لا يرجع بما ضمنه من عوض المنفعة ; لأنه دخل على ضمانه ، فيقال لهم ; نعم دخل على ضمانه بالمسمى لا بعوض المثل ، وإن كان مشتريا ، وضمن قيمة العين والمنفعة ؟ فقالوا : يرجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين ; لأنه التزم ضمان العين ودخل على استيفاء المنفعة بلا عوض .

والصحيح أنه يرجع بما زاد من قيمة العين على الثمن الذي بذله ، وإن كان مستعيرا وضمن قيمة العين والمنفعة رجع بما غرمه من ضمان المنفعة ; لأنه دخل على استيفائها مجانا ، ولم يرجع بما ضمنه من قيمة العين ; لأنه دخل على ضمانها بقيمتها .

وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن ما حصل له منفعة تقابل ما غرم كالمهر والأجرة في المبيع وفي الهبة وفي العارية ، وكقيمة الطعام إذا قدم له أو وهب منه فأكله فإنه لا يرجع به ; لأنه استوفى العوض ، فإذا غرم عوضه لم يرجع به ، والصحيح قوله الأول ; لأنه لم يدخل على استيفائه بعوض ، ولو علم أنه يستوفيه بعوضه لم يدخل على ذلك ، ولو علم الضيف أن صاحب البيت أو غيره يغرمه الطعام لم يأكله ، ولو ضمن المالك ذلك كله للغاصب جاز ، [ ص: 249 ] ولم يرجع على القابض إلا بما يرجع له عليه ، فيرجع عليه إذا كان مستأجرا بما غرمه من الأجرة .

وعلى القول الذي اخترناه إنما يرجع عليه بما التزمه من الأجرة خاصة ، ويرجع عليه إذا كان مشتريا بما غرمه من قيمة العين ، وعلى القول الآخر إنما يرجع عليه بما بذله من الثمن ، ويرجع عليه إذا كان مستعيرا بما غرمه من قيمة العين ; إذ لا مسمى هناك ، وإذا كان متهبا أو مودعا لم يرجع عليه بشيء ، فإن كان القابض من الغاصب هو المالك فلا شيء له بما استقر عليه لو كان أجنبيا ، وما سواه فعلى الغاصب ; لأنه لا يجب له على نفسه شيء ، وأما ما لا يستقر عليه لو كان أجنبيا بل يكون قراره على الغاصب فهو على الغاصب أيضا هاهنا .

والقول الثاني : أنه ليس للمالك مطالبة المغرور ابتداء ، كما ليس له مطالبته قرارا ، وهذا هو الصحيح ، ونص عليه الإمام أحمد في المودع إذا أودعها - يعني الوديعة - عند غيره من غير حاجة فتلفت فإنه لا يضمن الثاني إذا لم يعلم ، وذلك لأنه مغرور .

وطرد هذا النص أنه لا يطالب المغرور في جميع هذه الصور ، وهو الصحيح ; فإنه مغرور ولم يدخل على أنه مطالب ، فلا هو التزم المطالبة ولا الشارع ألزمه بها ، وكيف يطالب المظلوم المغرور ويترك الظالم الغار ؟ ولا سيما إن كان محسنا بأخذه الوديعة ، وما على المحسنين من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق وهذا شأن الغار الظالم .

وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن المشتري المغرور بالأمة إذا وطئها ثم خرجت مستحقة ، وأخذ منه سيدها المهر ، رجع به على البائع لأنه غره .

وقضى علي كرم الله وجهه أنه لا يرجع به لأنه استوفى عوضه .

وهاتان الروايتان عن الصحابة هما قولان للشافعي وروايتان عن الإمام أحمد ، ومالك أخذ بقول عمر ، وأبو حنيفة أخذ بقول علي كرم الله وجهه .

وقول عمر أفقه لأنه لم يدخل على أنه يستمتع بالمهر ، وإنما دخل على الاستمتاع بالثمن وقد بذله ، وأيضا فالبائع ضمن له بعقد البيع سلامة الوطء كما ضمن له سلامة الولد .

فكما يرجع عليه بقيمة الولد يرجع عليه بالمهر .

فإن قيل : فما تقولون في أجرة الاستخدام إذا ضمنه إياها المستحق ، هل يرجع بها على الغار ؟ .

قلنا : نعم يرجع بها ، وقد صرح بذلك القاضي وأصحابه ، وقد قضى أمير المؤمنين [ ص: 250 ] علي كرم الله وجهه أيضا بأن الرجل إذا وجد امرأته برصاء أو عمياء أو مجنونة فدخل بها فلها الصداق ، ويرجع به على من غره .

وهذا محض القياس والميزان الصحيح ; لأن الولي لما لم يعلمه وأتلف عليه المهر لزمه غرمه .

فإن قيل : هو الذي أتلفه على نفسه بالدخول .

قيل : لو علم أنها كذلك لم يدخل بها ، وإنما دخل بها بناء على السلامة التي غره بها الولي ، ولهذا لو علم العيب ورضي به ودخل بها لم يكن هناك فسخ ولا رجوع ، ولو كانت المرأة هي التي غرته سقط مهرها .

ونكتة المسألة أن المغرور إما محسن ، وإما معذور ، وكلاهما لا سبيل عليه ، بل ما يلزم المغرور باستلزامه لا يسقط عنه كالثمن في المبيع والأجرة في عقد الإجارة .

فإن قيل : فالمهر قد التزمه ، فكيف يرجع به ؟ قيل : إنما التزمه في محل سليم ، ولم يلتزمه في معيبة ولا أمة مستحقة ; فلا يجوز أن يلزم به .

فإن قيل : فهذا ينتقض عليكم بالنكاح الفاسد ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه فيه بالصداق بما استحل من فرجها ، وهو لم يلتزمه إلا في نكاح صحيح .

قيل : لما أقدم على الباطل لم يكن هناك من غره ، بل كان هو الغار لنفسه ، فلا يذهب استيفاء المنفعة فيه مجانا ، وليس هناك من يرجع عليه ، بل لو فسد النكاح بغرور المرأة سقط مهرها ، أو بغرور الولي رجع عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية