الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فإنهم لما أظهروا العجب من رسالته أظهروا استبعاد كلامه ، وهذا كما قال تعالى عنهم : ( قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم ) [ سبأ : 43 ] ، ( وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى ) [ سبأ : 43 ] وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله : ( أئذا متنا وكنا ترابا ) إنكار منهم بقول أو بمفهوم دل عليه قوله تعالى : ( جاءهم منذر ) لأن الإنذار لما لم يكن إلا بالعذاب المقيم والعقاب الأليم ، كان فيه الإشارة للحشر ، فقالوا : ( أئذا متنا وكنا ترابا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ذلك إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار ، وقوله : ( هذا شيء عجيب ) إشارة إلى المجيء على ما قلنا ، فلما اختلفت الصفتان نقول : المجيء والجائي كل واحد حاضر . وأما الإنذار وإن كان حاضرا لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك ، والرجع مصدر رجع يرجع إذا كان متعديا ، والرجوع مصدره إذا كان لازما ، وكذلك الرجعى مصدر عند لزومه ، والرجع أيضا يصح مصدرا للازم ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله : ( ذلك رجع بعيد ) أي رجوع بعيد ، ويحتمل أن يكون المراد الرجع المتعدي ، ويدل على الأول قوله تعالى : ( إن إلى ربك الرجعى ) [ العلق : 8 ] وعلى الثاني قوله تعالى : ( أئنا لمردودون ) [ النازعات : 10 ] أي مرجعون ، فإنه من الرجع المتعدي ، فإن قلنا : هو من المتعدي ، فقد أنكروا كونه مقدورا في نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إن الله تعالى قال : ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ) .

                                                                                                                                                                                                                                            إشارة إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه ، وذلك لأن الله تعالى يجمع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر ، وقادر على الجمع والتأليف ، فليس الرجوع منه ببعيد ، وهذا كقوله تعالى : ( وهو الخلاق العليم ) [ يس : 81 ] حيث جعل للعلم مدخلا في الإعادة . وقوله : ( قد علمنا ما تنقص الأرض ) يعني لا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في تخوم الأرضين ، وهذا جواب لما كانوا يقولون : ( أئذا ضللنا في الأرض ) [ السجدة : 10 ] يعني أن ذلك إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم من ظلمهم وتعديهم بما كانوا يقولون ، وبما كانوا يعملون ، ويحتمل أن يقال : معنى قوله تعالى : ( وعندنا كتاب حفيظ ) هو أنه عالم بتفاصيل الأشياء ، وذلك لأن العلم إجمالي وتفصيلي ، فالإجمالي كما يكون عند [ ص: 132 ] الإنسان الذي يحفظ كتابا ويفهمه ، ويعلم أنه إذا سئل عن أية مسألة تكون في الكتاب يحضر عنده الجواب ، ولكن ذلك لا يكون نصب عينيه حرفا بحرف ، ولا يخطر بباله في حالة بابا بابا ، أو فصلا فصلا ، ولكن عند العرض على الذهن لا يحتاج إلى تجديد فكر وتحديد نظر ، والتفصيلي مثل الذي يعبر عن الأشياء ، والكتاب الذي كتب فيه تلك المسائل ، وهذا لا يوجد عند الإنسان إلا في مسألة ومسألتين . أما بالنسبة إلى كتاب فلا يقال : ( وعندنا كتاب حفيظ ) يعني : العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا ، والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ ، أي محفوظ من التغيير والتبديل ، ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ ، أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئا منها ، والثاني هو الأصح لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن ، قال تعالى : ( الله حفيظ عليهم ) [ الشورى : 6 ] وقال تعالى : ( إني حفيظ عليم ) ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء ، وهو مستغن عن أن يحفظ .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( بل كذبوا بالحق ) رد عليهم ، فإن قيل : ما المضروب عنه ؟

                                                                                                                                                                                                                                            نقول : فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : تقديره لم يكذب المنذر ، بل كذبوا هم ، وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا : ( هذا شيء عجيب ) كان في معنى قولهم : إن المنذر كاذب ، فقال تعالى : لم يكذب المنذر ، بل هم كذبوا ، فإن قيل : ما الحق ؟ نقول : يحتمل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : البرهان القائم على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : الفرقان المنزل ، وهو قريب من الأول ؛ لأنه برهان .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق . الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق ، فإن قيل : بين لنا معنى الباء في قوله تعالى : ( بالحق ) وأية حاجة إليها ، يعني أن التكذيب متعد بنفسه ، فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة ، كما في قوله تعالى : ( فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون ) [ القلم : 5 ، 6 ] ؟ نقول : فيه بحث وتحقيق ، وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية ، وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب ، لكن النسبة تارة توجد في القائل ، وأخرى في القول ، تقول : كذبني فلان وكنت صادقا ، وتقول : كذب فلان قول فلان ، ويقال : كذبه ، أي جعله كاذبا ، وتقول : قلت لفلان : زيد يجيء غدا ، فتأخر عمدا حتى كذبني وكذب قولي . والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها ، قال تعالى : ( كذبت ثمود المرسلين ) [ الشعراء : 141 ] وقال تعالى : ( كذبت ثمود بالنذر ) [ القمر : 23 ] وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر ، قال تعالى : ( فكذبوه ) [ الأعراف : 64 ] وقال : ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) [ فاطر : 4 ] إلى غير ذلك ، وفي القول الاستعمال بالباء أكثر ، قال الله تعالى : ( كذبوا بآياتنا كلها ) [ القمر : 42 ] وقال : ( بل كذبوا بالحق ) وقال تعالى : ( وكذب بالصدق إذ جاءه ) [ الزمر : 32 ] والتحقيق فيه هو أن المفعول المطلق هو المصدر ، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل ، فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضرب ، غير أن له محلا يقع فيه فيسمى مضروبا ، ثم إذا كان ظاهرا لكونه محلا للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف ، يقال : ضربت عمرا ، وشربت خمرا ، للعلم بأن الضرب لا بد له من محل يقوم به ، والشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه ، وإذا قلت : مررت يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية لعدم ظهوره في نفسه ، لأن من قال : مر السحاب يفهم منه مرور ولا يفهم منه من مر به ، ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضرب والشرب ، وفي الخفاء دون المرور ، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف لظهوره الذي فوق ظهور المرور ، ومع الحرف لكون الظهور دون [ ص: 133 ] ظهور الضرب ؛ ولهذا لا يجوز أن تقول : ضربت بعمرو ، إلا إذا جعلته آلة الضرب ، أما إذا ضربته بسوط أو غيره ، فلا يجوز فيه زيادة الباء ، ولا يجوز مروا به إلا مع الاشتراك ، وتقول : مسحته ومسحت به ، وشكرته وشكرت له ؛ لأن المسح إمرار اليد بالشيء ، فصار كالمرور ، والشكر فعل جميل غير أنه يقع بمحسن ، فالأصل في الشكر الفعل الجميل ، وكونه واقعا بغيره كالبيع بخلاف الضرب ، فإنه إمساس جسم بجسم بعنف ، فالمضروب داخل في مفهوم الضرب أولا ، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانيا ، إذا عرفت هذا فالتكذيب في القائل ظاهر ؛ لأنه هو الذي يصدق أو يكذب ، وفي القول غير ظاهر فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر ، والباء فيه لظهور معنى التعدية .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية