الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون

الكثير في هذه الآية يراد به من كان يئد من مشركي العرب؛ والشركاء ههنا الشياطين الآمرون بذلك؛ المزينون له؛ والحاملون عليه أيضا من بني آدم؛ الناقلين له عصرا بعد عصر؛ إذ كلهم مشتركون في قبح هذا الفعل؛ وتبعاته في الآخرة؛ ومقصد هذه الآية الذم للوأد والإنحاء على فعلته.

[ ص: 468 ] واختلفت القراءة؛ فقرأت الجماعة - سوى ابن عامر -: "وكذلك زين"؛ بفتح الزاي؛ "قتل"؛ بالنصب؛ "أولادهم"؛ بكسر الدال؛ "شركاؤهم"؛ وهذه أبين قراءة؛ وحكى سيبويه أنه قرأت فرقة: "وكذلك زين"؛ بضم الزاي؛ "قتل"؛ بالرفع؛ "أولادهم" بكسر الدال؛ "شركاؤهم"؛ بالرفع.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي ؛ والحسن ؛ وأبي عبد الملك - قاضي الجند؛ صاحب ابن عامر -؛ كأنه قال: "زينه شركاؤهم"؛ قال سيبويه : وهذا كما قال الشاعر:


ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما يطيع الطوائح



كأنه قال: "يبكيه ضارع لخصومة"؛ وأجاز قطرب أن يكون الشركاء في هذه القراءة ارتفعوا بالقتل؛ كأن المصدر أضيف إلى المفعول؛ ثم ذكر بعده الفاعل؛ كأنه قال: "أن قتل أولادهم شركاؤهم"؛ كما تقول: "حبب إلي ركوب الفرس زيد"؛ أي: "أن ركب زيد الفرس".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والصحيح إذا أضيف مصدر إلى مفعول ألا يذكر الفاعل؛ وأيضا فالجمهور - في هذه الآية - على أن الشركاء مزينون؛ لا قاتلون؛ والتوجيه الذي ذكر سيبويه هو الصحيح؛ ومنه قوله - عز وجل - على قراءة من قرأ: "يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال"؛ بفتح الباء المشددة؛ أي: "يسبح رجال".

وقرأ ابن عامر : "وكذلك زين"؛ بضم الزاي؛ "قتل"؛ بالرفع؛ "أولادهم"؛ بنصب الدال؛ "شركائهم"؛ بخفض الشركاء؛ وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب؛ ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا؛ إلا في الشعر؛ كقوله:


كما خط الكتاب بكف يوما ...     يهودي يقارب أو يزيل



[ ص: 469 ] فكيف بالمفعول في أفصح الكلام؟ ولكن وجهها - على ضعفها - أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش ؛ وهو:


فزججتها بمزجة ...     زج القلوص أبي مزادة



وفي بيت الطرماح؛ وهو قوله:


يطفن بحوزي المراتع لم ترع ...     بواديه من قرع القسي الكنائن



والشركاء - على هذه القراءة - هم الذين يتأولون وأد بنات الغير؛ فهم القاتلون؛ والصحيح من المعنى أنهم المزينون؛ لا القاتلون؛ وذلك مضمن قراءة الجماعة.

وقرأ بعض أهل الشام - ورويت عن ابن عامر -: "زين"؛ بكسر الزاي؛ وسكون الياء؛ على الرتبة المتقدمة؛ من الفصل بالمفعول؛ وحكى الزهراوي أنه قرأت فرقة من أهل الشام: "وكذلك زين"؛ بضم الزاي؛ "قتل"؛ بالرفع؛ "أولادهم"؛ بكسر الدال؛ "شركائهم"؛ بالخفض؛ والشركاء - على هذه القراءة - هم الأولاد الموؤودون؛ لأنهم شركاء في النسب [ ص: 470 ] والمواريث؛ وكأن وصفهم بأنهم شركاء يتضمن حرمة لهم؛ وفيها بيان لفساد الفعل؛ إذ هو قتل من له حرمة.

و"ليردوهم"؛ معناه: ليهلكوهم. من "الردى"؛ و"وليلبسوا"؛ معناه: ليخلطوا؛ والجماعة على كسر الباء؛ وقرأ إبراهيم النخعي : "وليلبسوا"؛ بفتح الباء؛ قال أبو الفتح: هي استعارة من "اللباس"؛ عبارة عن شدة المخالط؛ وهذان الفعلان يؤيدان أول قراءة في ترتيبنا؛ في قوله تعالى وكذلك زين .

وقوله تعالى ولو شاء الله ما فعلوه ؛ يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة الله - عز وجل -؛ وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله.

وقوله تعالى "فذرهم"؛ وعيد محض؛ و "يفترون"؛ معناه: يختلقون من الكذب في تشرعهم بذلك؛ واعتقادهم أنها مباحات لهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية