الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 106 ] ( باب الوكالة بالخصومة والقبض )

قال ( الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض ) عندنا خلافا لزفر . هو يقول رضي بخصومته والقبض غير الخصومة ولم يرض به [ ص: 107 ]

ولنا أن من ملك شيئا ملك إتمامه وإتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض ، والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله لظهور الخيانة في الوكلاء ، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال ، ونظيره الوكيل بالتقاضي يملك القبض على أصل الرواية لأنه في معناه وضعا [ ص: 108 ] إلا أن العرف بخلافه وهو قاض على الوضع والفتوى على أن لا يملك .

التالي السابق


( باب الوكالة بالخصومة والقبض )

أخر الوكالة بالخصومة عن الوكالة بالبيع والشراء لأن الخصومة تقع باعتبار ما يجب استيفاؤه ممن هو في ذمته ، وذلك في الأغلب يكون بمطالبة المبيع أو الثمن ، أو لأنها مهجورة شرعا فاستحقت التأخير عما ليس بمهجور ، وكذا في العناية .

وذكر الوجه الثاني في سائر الشروح أيضا . واعترض عليه بعض الفضلاء حيث قال فيه بحث ، لأنا لا نسلم ذلك ، كيف وقد وقعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة رضي الله عنهم ، وانظر إلى تفسير الخصومة هل فيه ما يوجب هجرها ا هـ . أقول : هذا ساقط جدا لأن المراد أن الخصومة بحقيقتها وهي المنازعة مهجورة شرعا لقوله تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا } وإنما شرعت ووقعت من الأشراف باعتبار كونها مجازا عن جواب الخصم بنعم أو لا كما سيأتي بحثه عن قريب مفصلا ومشروحا ، وقد وقع التصريح به هاهنا أيضا في عبارة كثير من الشراح حيث قالوا : لما كانت الخصومة مهجورة شرعا لقوله تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا } حتى تركت حقيقتها إلى مطلق الجواب مجازا أخر ذكر الوكالة بالخصومة عما ليس بمهجور شرعا بل هو مقرر على حقيقته ( قال ) أي القدوري في مختصره ( الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض ) أطلق كلامه في رواية ليتناول الوكيل بالخصومة في العين والدين جميعا ، فإن الإمام المحبوبي قد ذكر أن الوكيل بالخصومة في العين والدين جميعا وكيل بالقبض ( عندنا ) أي عند علمائنا الثلاثة ، كذا في النهاية ومعراج الدراية ( خلافا لزفر ) فإنه يقول : الوكيل بالخصومة لا يكون وكيلا بالقبض ، وبه قال الشافعي في الأظهر ومالك وأحمد ، وعن الشافعي في وجه أنه يملك القبض كما قلنا ( هو ) أي زفر ( يقول ) إنه ( رضي ) أي الموكل ( بخصومته ) أي بخصومة الوكيل ( والقبض غير الخصومة ) لأن الخصومة قول يستعمل في إظهار الحقوق والقبض فعل حسي ( ولم يرض به ) أي ولم يرض الموكل بالقبض إذ يختار للخصومة في العادة ألح الناس وللقبض آمن الناس ، فمن يصلح [ ص: 107 ] للخصومة لا يرضى بأمانته عادة .

( ولنا أن من ملك من ذلك شيئا ملك إتمامه وإتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض ) يعني أن الوكيل بالشيء مأمور بإتمام ذلك الشيء ، وإتمام الخصومة يكون بالقبض لأن الخصومة باقية ما لم يقبض ، وذلك لأنه ما لم يقبض يتوهم عليه الإنكار بعد ذلك والمطل ، ويحتاج إلى المرافعة بإثبات الخصومة فلما وكله بفصلها والفصل بالقبض دخل تحته ضمنا ، كذا قرره صاحب النهاية وعزاه إلى المبسوط والأسرار . واقتفى أثره صاحب معراج الدراية ، وقال صاحب العناية في تقريره : ولنا أن الوكيل ما دام وكيلا يجب عليه القيام بما أمر به ، وقد أمر بالخصومة والخصومة لا تتم إلا بالقبض لتوهم الإنكار بعد ذلك وتعذر الإثبات بعارض من موت القاضي أو غيره والمطل والإفلاس ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ا هـ . ورد عليه بعض الفضلاء بأن قوله : ولنا أن الوكيل ما دام وكيلا يجب عليه القيام بما أمر به مخالف لما أسلفه في أوائل كتاب الوكالة من قوله وحكم الوكالة جواز مباشرة الوكيل ما فوض إليه .

أقول : ليس هذا بشيء ، فإن منشأه الغفلة عن فائدة قوله ما دام وكيلا في قوله إن الوكيل ما دام وكيلا يجب عليه القيام بما أمر به ، إذ لا شك أن الوكيل ما دام ثابتا على وكالته يجب عليه أداء ما أمر به وإلا يلزم تغرير الآمر وهو ممنوع شرعا ، ومعنى ما ذكره في أوائل كتاب الوكالة أن الوكالة عقد جائز غير لازم فحكمها جواز أن يباشر الوكيل ما فوض إليه وأن لا يباشره بشرط عزل الموكل إياه أو عزل الوكيل نفسه وإعلامه الموكل ، ثم رد عليه أيضا ذلك البعض في قوله والخصومة لا تتم إلا بالقبض بأنه إن أريد قبض الوكيل فغير مسلم ، وإن أريد ما يعمه وقبض الموكل فمسلم ، ولكن لا يترتب عليه مطلوبه . أقول : المراد بذلك قبض الوكيل أو الموكل ، ويترتب عليه مطلوبه قطعا بمقتضى مقدمته القائلة : وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لأنه لما فوض الموكل الخصومة إلى الوكيل والتزم الوكيل إقامتها دخل في ضمن ذلك ما لا تتم الخصومة إلا به وهو القبض فملكه الوكيل قطعا ووجب عليه القيام به ما دام على وكالته ( والفتوى اليوم على قول زفر لظهور الخيانة في الوكلاء ، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال ) ومشايخ بلخ أفتوا بقول زفر لأن التوكيل بالقبض غير ثابت نصا ولا دلالة .

أما نصا فظاهر ، وأما دلالة فلأن الإنسان قد يوكل غيره بالخصومة والتقاضي ولا يرضى بأمانته وقبضه ، وبه أفتى الصدر الشهيد أيضا ، كذا ذكره الإمام المحبوبي في جامعه ، وذكر في الشروح أيضا إلا أن صاحب العناية قال بعد ذكر ذلك : وفيه نظر ، فإن الدلالة قد وقعت بما ذكرنا أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

قال المصنف ( ونظيره ) أي نظير الوكيل بالخصومة ( الوكيل بالتقاضي ) فإنه ( يملك القبض على أصل الرواية ) وهو رواية الأصل ( لأنه في معناه وضعا ) أي لأن التقاضي في معنى القبض من حيث الوضع ، وعن هذا قال في الأساس تقاضيته ديني وبديني ، واقتضيته ديني واقتضيت منه حقي : أي أخذته . وقال في القاموس : وتقاضاه الدين قبضه منه . ثم إن صاحب غاية البيان بعد أن فسر قول المصنف لأنه [ ص: 108 ] في معناه وضعا بقوله : أي لأن التقاضي في معنى القبض قال فيه نظر ، لأنه قال في المغرب : تقاضيته ديني وتقاضيته بديني واستقضيته طلبت قضاءه ، واقتضيت منه حقي أخذته . وقال الشارح العيني بعد نقل النظر المذكور عنه : قلت لم أدر وجه النظر فيه لأنه لم يقل التقاضي هو القبض بل قال في معنى القبض .

أقول : بل لا وجه لما قال لأن وجه النظر هو أن المفهوم مما في المغرب كون التقاضي في اللغة بمعنى طلب القضاء لا بمعنى القبض كما ذكره المصنف ، ولا يدفعه قوله لأنه لم يقل التقاضي هو القبض بل قال في معنى القبض ، إذ لا شك أن معنى قوله إنه في معناه وضعا أنهما متحدان معنى من حيث الوضع في أصل اللغة ، ولو كان معنى التقاضي في اللغة طلب القضاء لا غير لم يتحقق ذلك الاتحاد فلم يكن في معنى القبض قطعا . ثم أقول في الجواب عن النظر المذكور : لعل صاحب المغرب فسر التقاضي بطلب القضاء الذي هو المعنى العرفي للفظ التقاضي لكونه غالبا على معناه الوضعي الأصلي كما ستعرفه ، فحينئذ لا يكون مخالفا لما ذكره المصنف ، وما صرح به عامة ثقات أرباب اللغة في كتبهم المعتبرة من كون معنى التقاضي هو الأخذ والقبض بناء على أصل الوضع ، ويرشد إليه أنه فرق بين الاقتضاء والتقاضي ، ففسر الاقتضاء بالأخذ على أصله لعدم جريان العرف المذكور فيه ، وإلا فلا فرق بينهما في أصل اللغة كما عرفته مما نقلناه فيما مر آنفا عن الأساس وصرح به الجوهري في صحاحه حيث قال : واقتضى دينه وتقاضاه بمعنى فتدبر ( إلا أن العرف بخلافه ) أي بخلاف الوضع لأن الناس لا يفهمون من التقاضي القبض بل يفهمون منه المطالبة ( وهو ) أي العرف ( قاض على الوضع ) أي راجح عليه لأن وضع الألفاظ لحاجة الناس وهم لا يفهمون المعنى الموضوع له بل يفهمون المجاز ، فصار المجاز بمنزلة الحقيقة العرفية لتسارع أفهام الناس إليه ( والفتوى على أن لا يملك ) يعني فتوى المشايخ اليوم على أن لا يملك الوكيل بالتقاضي القبض بناء على العرف .

قال صاحب العناية : وفيه نظر ، لأن الحقيقة مستعملة والمجاز متعارف وهي أولى منه عند أبي حنيفة . والجواب أن ذلك وجه لأصل الرواية ولا كلام فيه ، وإنما الكلام في أن الفتوى على أصل الرواية أو على العرف لظهور الخيانة في الوكلاء قالوا على العرف فلا يملك القبض ا هـ كلامه . أقول : لا النظر شيء ولا الجواب . أما الأول فلأن الحقيقة في لفظ التقاضي غير مستعملة بل هي مهجورة كما صرح به ثقات المشايخ كالإمام فخر الإسلام البزدوي وصاحب المحيط وغيرهما . قال في المحيط البرهاني : الوكيل بالتقاضي يملك القبض عند علمائنا الثلاثة ، هكذا ذكر محمد في الأصل . ثم قال : وذكر الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي في شرح هذا الكتاب أن الوكيل بالتقاضي في عرف ديارنا لا يملك القبض ، كذا جرت العادة في ديارنا ، وجعل التقاضي مستعملا في المطالبة مجازا لأنه سبب الاقتضاء وصارت الحقيقة مهجورة إلى هنا كلامه .

وأما الثاني فلأن كون الحقيقة المستعملة أولى من المجاز المتعارف أصل مقرر عند أبي حنيفة لم يرجع عنه قط ، فلو كانت الحقيقة في لفظ التقاضي مستعملة لم يصح قول المصنف ، وهو قاض على الوضع على أصل أبي حنيفة قطعا ، ولم يكن للمشايخ الفتوى على العرف في مسألتنا هذه ، إذ يلزم حينئذ ترك أصل إمامهم المجتهد ، وليست وظيفتهم إلا الجريان على أصله الكلي ، وإن جاز لهم بعض من التصرفات [ ص: 109 ] في الفروع الجزئية . لا يقال : يجوز أن يكون مدار قول المصنف ومدار فتواهم على أصل أبي يوسف ومحمد ، فإن المجاز المتعارف أولى من الحقيقة المستعملة عندهما .

لأنا نقول : الذي يظهر من هذا الكتاب ومن سائر الكتب أن لا يقع خلاف في هذه المسألة بين أئمتنا الثلاثة ; ألا يرى إلى قول محمد في الأصل : الوكيل بالتقاضي يملك القبض عند علمائنا الثلاثة ، ولو كان لأصلنا المذكور تأثير في هذه المسألة لما وقع الاتفاق بينهم فيها ، على أن صاحب التلويح قال : وفي كلام فخر الإسلام وغيره ما يدل على أن المجاز المتعارف إنما يترجح عندهما إذا تناول الحقيقة بعمومه كما في مسألة أكل الحنطة ا هـ . ولا يخفى أن الأمر ليس كذلك فيما نحن فيه فلا تمشية لأصلهما المذكور هاهنا رأسا ، فلا مجال لأن يجعل مدار الصحة قول المصنف وفتوى المشايخ فالتحقيق في هذا المقام أن التوكيل بالتقاضي كان مستعملا على حقيقته في الأوائل ، ولم يجر العرف على خلاف ذلك في تلك الأيام ، فكان الوكيل بالتقاضي يملك القبض بالاتفاق على ما وقع في أصل الرواية . وأما اليوم فلما ظهرت الخيانة في الوكلاء وجرى العرف على أن جعلوا التقاضي في التوكيل بالتقاضي مستعملا في المطالبة مجازا وصارت الحقيقة مهجورة أفتى مشايخنا المتأخرون بأن الوكيل بالتقاضي لا يملك القبض بالاتفاق بناء على الأصل المقرر المتفق عليه عند المجتهدين من أن المجاز المتعارف أولى من الحقيقة المهجورة فلم يبق في المقام غبار أصلا .




الخدمات العلمية