الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقت المغرب أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك ، وقال الله عز وجل : أقم الصلاة لدلوك الشمس وهو يقع على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى : وزلفا من الليل وهو ما قرب منه من النهار ، وهو أول أوقاته والله أعلم .

وقال تعالى : فسبحان الله حين تمسون قيل فيه إنه وقت المغرب . وفي أخبار المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ابن عباس وجابر وأبي سعيد وغيرهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس . وقال سلمة بن الأكوع : كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توارت بالحجاب .

وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم ، واحتجوا بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبي بصرة الغفاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فقال : إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها ، فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين ، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد ؛ والشاهد النجم . وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أول وقت المغرب أنه حين تغيب الشمس

؛ وقد روى ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبد الله وعثمان وأبو هريرة . ويحتمل أن يكون خبر أبي بصرة في ذكر طلوع الشاهد غير مخالف لهذه الأخبار وذلك ؛ لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد غروب الشمس قبل اختلاط الظلام ، فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة الشمس .

وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب إذا رئي النجم ؛ لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل الغروب ، ولا خلاف أنه غير جائز فعلها قبل [ ص: 258 ] الغروب مع رؤية الشاهد ، فسقط بذلك اعتبار طلوع الشاهد .

وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح : " لوقت المغرب أول وآخر كسائر الصلوات " . وقال الشافعي : " ليس للمغرب إلا وقت واحد " . ثم اختلف من قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها ، فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح : " آخر وقتها أن يغيب الشفق " . ثم اختلفوا في الشفق ، فقال أبو حنيفة : " الشفق البياض " . وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى ومالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي : " الشفق الحمرة " .

وقال مالك : " وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر " . قال أبو بكر : وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو ، فقال بعضهم : " هو البياض " وقال بعضهم : " الحمرة " . فممن قال إنه الحمرة ابن عباس وابن عمر وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس .

حدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال : حدثنا أبو عمران موسى بن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا : حدثنا هشام بن عبيد الله قال : حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : " الشفق الحمرة " .

قال هشام : وحدثنا أبو سفيان عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال : " الشفق الحمرة " . قال هشام : وحدثنا أبو سفيان عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال : " كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها الشفق " . فهؤلاء الذين روي عنهم الحمرة .

وممن روي عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر بن عبد العزيز ؛ حدثنا يوسف بن شعيب قال : حدثنا موسى بن القاسم والحسين بن الفرج قالا : حدثنا هشام بن عبيد الله قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعي قال : حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب : " إن أول وقت العشاء مغيب الشفق " ، ومغيبه إذا اجتمع البياض من الأفق فينقطع ، فذلك أول وقتها .

قال هشام : حدثنا أبو عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال : " الشفق البياض " . قال هشام : وحدثنا محمد بن الحسن عمن ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : " الشفق البياض " .

فصل وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة فحسب ، قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد ذكرنا من [ ص: 259 ] قال من السلف إنه الغروب واحتمال اللفظ له ، فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر ؛ لأن قوله تعالى : إلى غسق الليل غاية ؛ وقد روي عن ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة ، فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة ، وفي ذلك ما يقضي ببطلان قول من جعل لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة .

وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أول وقت المغرب حين تسقط الشمس وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق وفي حديث أبي بكرة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة ، فذكر الحديث وقال فيه : وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق ، ثم قال : الوقت فيما بين هذين .

وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال : صل معنا فأقام المغرب حين غابت الشمس ، ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق ؛ وكذلك في حديث جابر . فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا وآخرا .

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا همام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وقت المغرب ما لم يغب الشفق .

وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بأطول الطول وهي المص . وهذا يدل على امتداد الوقت ، ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ : " المص " قد أخرها عن وقتها .

فإن قيل : روي في حديث ابن عباس وأبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس . قيل له : هذا لا يعارض ما ذكرنا ؛ لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب ؛ وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره ، وإخبار منه بأن ما بين هذين وقت ، فهو أولى ؛ لأن فيه استعمال الخبرين ، ومع ذلك فإن فعله لها في اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن فيه دلالة على أن لا وقت لها غيره ، كما لم يدل فعله للعصر في اليومين قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره ، وكفعله للعشاء الآخرة في اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها .

ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر ولم تكن أوقاتها [ ص: 260 ] مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك ؛ فقول من جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا . ومما يلزم الشافعي في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر ، فلو كان بينهما وقت ليس منهما لما جاز الجمع بينهما ، كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر إذا كان بينهما وقت ليس منهما .

فإن قيل : ليس علة الجمع تجاور الوقتين ؛ لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر مع تجاور الوقتين .

قيل له : لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع ، وإنما ألزمناه المنع من الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين ؛ لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب .

ذكر القول في الشفق والاحتجاج له . قال أبو بكر : لما اختلف الناس في الشفق ، فقال منهم قائلون : " هو الحمرة " وقال آخرون : " البياض " . علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة لولا ذلك لما تأولوه عليهما ؛ إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى القرء فتأوله بعضهم على الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما ؟ وإنما نحتاج بعد ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية .

وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب قال : سئل ثعلب عن الشفق ما هو ؟ فقال : البياض ؛ فقال له السائل : الشواهد على الحمرة أكثر ، فقال ثعلب : إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفي فأما البياض فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد .

قال أبو بكر : ويقال إن أصل الشفق الرقة ، ومنه يقال ثوب شفق ، ومنه الشفقة وهي رقة القلب . وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به ؛ لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس ، وهو في البياض أرق منه في الحمرة ؛ ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبي النجم :

حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلي بين سماطي شفق مهول


فهي على الأفق كعين الأحول

ومعلوم أنه أراد الحمرة ؛ لأنه وصفها عند الغروب . ومما يحتج به للبياض قوله تعالى : فلا أقسم بالشفق قال مجاهد : " هو النهار " .

ويدل عليه قوله : والليل وما وسق فأقسم [ ص: 261 ] بالليل والنهار ، فهذا يوجب أن يكون الشفق البياض ؛ لأن أول النهار هو طلوع بياض الفجر ، وهذا يدل على أن الباقي من البياض بعد غروب الشمس هو الشفق ومما يستدل به على أن المراد البياض قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد بينا أن الدلوك اسم يقع على الغروب ، ثم جعل غسق الليل غايته . وروي عن ابن عباس في غسق الليل : " أنه اجتماع الظلمة " وذلك لا يكون إلا مع غيبوبة البياض لأن البياض ما دام باقيا فالظلمة متفرقة في الأفق فثبت بذلك أن وقت المغرب إلى غيبوبة البياض ، فثبت أن المراد البياض .

فإن قيل : روي عن ابن مسعود وأبي هريرة أن غسق الليل هو غروب الشمس . قيل له : المشهور عن ابن مسعود أن دلوك الشمس هو غروبها ، ومحال إذا كان الدلوك عنده الغروب أن يكون غسق الليل غروب الشمس أيضا ؛ لأن الله تعالى قال : أقم الصلاة لدلوك الشمس فجعل الدلوك أول الوقت وغسق الليل آخره ، ويستحيل أن يكون ما جعله ابتداء هو الذي جعله غاية وإذا كان ذلك كذلك فالراوي عن ابن مسعود أن غسق الليل هو غروب الشمس غالط في روايته ، ومع ذلك فقد روي عن ابن مسعود رواية مشهورة أن دلوك الشمس غروبها وأن غسق الليل حين يغيب الشفق ؛ وهذه الرواية مستقيمة على ما ثبت عنه من تأويل الآية .

وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس : " أن دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس " ، وهذا غير بعيد على ما ثبت عنه في تأويل الدلوك أنه الزوال ؛ إلا أنه قد روى عنه مالك عن داود بن الحصين قال : أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول : " غسق الليل اجتماع الليل وظلمته " ، وهذا ينفي أن يكون غسق الليل وقت الغروب ، من قبل أن وقت الغروب لا يكون ظلمة مجتمعة .

وقد روي عن أبي جعفر في غسق الليل أنه انتصافه ، وعن إبراهيم : غسق الليل العشاء الآخرة . وأولى هذه المعاني بلفظ الآية اجتماع الظلمة وذهاب البياض وذلك ؛ لأنه لو كان غسق الليل هو غروب الشمس لكانت الغاية المذكورة للوقت هي وجود الليل فحسب ، فيصير تقدير الآية : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى الليل ؛ وتسقط معه فائدة ذكر الغسق مع الليل .

ولما وجب حمل كل لفظ منه على فائدة مجددة وجب أن يكون غسق الليل قد أفاد ما لم يفدناه لو قال : إلى الليل ؛ فتكون الفائدة فيه اجتماع الظلمة دون وجود الليل عاريا من اجتماعها .

ومما يستدل به على أن الشفق هو البياض حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق [ ص: 262 ] وربما أخرها حتى يجتمع الناس ، فأخبر عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل أوقاتها ، وأخبر عنها في أواخرها ، وذكر في أول وقت العشاء الآخرة اسوداد الأفق ؛ ومعلوم أن بقاء البياض يمنع إطلاق الاسم عليه بذلك .

فثبت أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة البياض . ومن يأبى هذا القول يقول : إن قوله : " حين اسود الأفق " لا ينفي بقاء البياض ؛ لأنه إنما أخبر عن اسوداد أفق من الآفاق لا عن جميعها ، ولو أراد غيبوبة البياض لقال : حين اسودت الآفاق ؛ وليس يمتنع أن يبقى البياض وتكون سائر الآفاق غير موضع البياض مسودة .

ويحتج القائلون بالبياض أيضا بحديث الزهري عن عروة عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء الآخرة حين يستوي الأفق ، وربما أخرها حتى يجتمع الناس ؛ وهذا اللفظ يحتمل من المعنى ما احتمله قوله في الحديث الأول " حين اسود الأفق " .

ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال : صل معي . فصلى في اليوم الأول العشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق . قالوا : ومعلوم أنه لم يصلها قبل غيبوبة الحمرة ، فوجب أن يكون أراد البياض ؛ ولا تكون رواية من روى أنه صلاها بعدما غاب الشفق معارضة لحديث جابر هذا ، من قبل أن معناه : بعدما غاب الشفق الذي هو الحمرة ؛ إذ كان الاسم يقع عليهما جميعا ليتفق الحديثان ولا يتضادا ، ومن يجعل الشفق البياض يجعل خبر جابر منسوخا على نحو ما روي في خبر ابن عباس في المواقيت أنه صلى الظهر في اليوم الثاني وقت العصر بالأمس .

ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره غيبوبة الشفق . وفي بعض أخبار عبد الله بن عمر : " إذا غابت الشمس فهو وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق " وفي لفظ آخر : " وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق " قالوا : فالواجب حمله على أولهما وهو الحمرة ؛ ومن يقول بالبياض يجيب عن هذا بأن ظاهر ذلك يقتضي غيبوبة جميعه وهو بالبياض ، فيدل ذلك على اعتبار البياض دون الحمرة ؛ لأنه غير جائز أن يقال قد غاب الشفق إلا بعد غيبوبة جميعه ، كما لا يقال غابت الشمس إلا بعد غيبوبة جميعها دون بعضها .

ولمن قال بالحمرة أن يقول : إن البياض والحمرة ليسا شفقا واحدا بل هما شفقان فيتناول الاسم أولهما غيبوبة ؛ كما أن [ ص: 263 ] الفجر الأول والثاني هما فجران وليسا فجرا واحدا ، فيتناولهما إطلاق الاسم معا كذلك الشفق . ومما يحتج به للقائلين بالبياض ، حديث النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة ، وظاهر ذلك يقتضي غيبوبة البياض . قال أبو بكر : وهذا لا يعتمد عليه ؛ لأن ذلك يختلف في الصيف والشتاء ولا يمتنع بقاء البياض بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة ، وجائز أن يكون قد غاب قبل سقوطه .

قال أبو بكر : وحكى ابن قتيبة عن الخليل بن أحمد قال : راعيت البياض فرأيته لا يغيب ألبتة وإنما يستدير حتى يرجع إلى مطلع الفجر . قال أبو بكر : وهذا غلط ؛ والمحنة بيننا وبينهم ؛ وقد راعيته في البوادي في ليالي الصيف والجو نقي والسماء مصحية فإذا هو يغيب قبل أن يمضي من الليل ربعه بالتقريب ، ومن أراد أن يعرف ذلك فليجرب حتى يتبين له غلط هذا القول .

ومما يستدل به على أن المراد بالشفق البياض ، أنا وجدنا قبل طلوع الشمس حمرة وبياضا قبلها وكانا جميعا من وقت صلاة واحدة ؛ إذ كانا جميعا من ضياء الشمس دون ظهور جرمها ؛ كذلك يجب أن تكون الحمرة والبياض جميعا بعد غروبها من وقت صلاة واحدة ، للعلة التي ذكرناها .

التالي السابق


الخدمات العلمية