الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 5413 ) مسألة ; قال : ( ومن خطب امرأة ، فلم تسكن إليه ، فلغيره خطبتها ) الخطبة ، بالكسر : خطبة الرجل المرأة لينكحها . والخطبة ، بالضم : هي حمد الله ، والتشهد ; ولا يخلو حال المخطوبة من ثلاثة أقسام : أحدها : أن تسكن إلى الخاطب لها ، فتجيبه ، أو تأذن لوليها في إجابته أو تزويجه ، فهذه يحرم على غير خاطبها خطبتها ; لما روى ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه } . وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ، حتى ينكح أو يترك } . متفق عليهما .

                                                                                                                                            ولأن في ذلك إفسادا على الخاطب الأول ، وإيقاع العداوة بين الناس ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرجل على بيع أخيه . ولا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم ، إلا أن قوما حملوا النهي على الكراهة ، والظاهر أولى . [ ص: 110 ] القسم الثاني : أن ترده أو لا تركن إليه . فهذه يجوز خطبتها ; لما روت فاطمة بنت قيس ، { أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن معاوية وأبا جهم خطباها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم ، فلا يضع عصاه عن عاتقه ، انكحي أسامة بن زيد } . متفق عليه

                                                                                                                                            . فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد إخبارها إياه بخطبة معاوية وأبي جهم لها ، ولأن تحريم خطبتها على هذا الوجه إضرار بها ، فإنه لا يشاء أحد أن يمنع المرأة النكاح إلا منعها بخطبته إياها ، وكذلك لو عرض لها في عدتها بالخطبة ، فقال : لا تفوتيني بنفسك . وأشباه هذا ، لم تحرم خطبتها ; لأن في قصة فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها { لا تفوتينا بنفسك . ولم ينكر خطبة أبي جهم ومعاوية لها } .

                                                                                                                                            وذكر ابن عبد البر ، أن ابن وهب روى بإسناده عن الحارث بن سعد بن أبي ذباب ، أن عمر بن الخطاب خطب امرأة على جرير بن عبد الله ، وعلى مروان بن الحكم ، وعلى عبد الله بن عمر ، فدخل على المرأة وهي جالسة في بيتها ، فقال عمر : إن جرير بن عبد الله يخطب ، وهو سيد أهل المشرق ، ومروان يخطب ، وهو سيد شباب قريش ، وعبد الله بن عمر يخطب ، وهو من قد علمتم ، وعمر بن الخطاب ، فكشفت المرأة الستر ، فقالت : أجاد أمير المؤمنين ؟ فقال : نعم . فقالت : فقد أنكحت أمير المؤمنين ، فأنكحوه . فهذا عمر قد خطب على واحد بعد واحد ، قبل أن يعلم ما تقول المرأة في الأول .

                                                                                                                                            القسم الثالث : أن يوجد من المرأة ما يدل على الرضى والسكون ، تعريضا لا تصريحا ، كقولها : ما أنت إلا رضى ، وما عنك رغبة . فهذه في حكم القسم الأول ، لا يحل لغيره خطبتها . هذا ظاهر كلام الخرقي ، وظاهر كلام أحمد ; فإنه قال : إذا ركن بعضهم إلى بعض ، فلا يحل لأحد أن يخطب . والركون يستدل عليه بالتعريض تارة ، وبالتصريح أخرى . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد إباحة خطبتها . وهو مذهب الشافعي في الجديد ; لحديث فاطمة ، حيث خطبها النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            وزعموا أن الظاهر من كلامها ركونها إلى أحدهما . واستدل القاضي بخطبته لها قبل سؤالها هل وجد منها ما دل على الرضى أو لا ؟ ولنا ، عموم قوله عليه السلام : { لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه } . ولأنه وجد منها ما دل على الرضى به ، وسكونها إليه ، فحرمت خطبتها ، كما لو صرحت بذلك . وأما حديث فاطمة فلا حجة لهم فيه ، فإن فيه ما يدل على أنها لم تركن إلى واحد منهما ، من وجهين ; أحدهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان قال لها : { لا تسبقيني بنفسك . وفي لفظ : لا تفوتيني بنفسك . وفي رواية : إذا حللت فآذنيني . فلم تكن لتفتات بالإجابة قبل أن تؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم } . والثاني ، أنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالمستشيرة له فيهما ، أو في العدول عنهما إلى غيرهما ، وليس في الاستشارة دليل على ترجيح أحد الأمرين ، ولا ميل إلى أحدهما ، على أنها إنما ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لترجع إلى قوله ورأيه ، وقد أشار عليها بتركهما ; لما ذكر من عيبهما ، فجرى ذلك مجرى ردها لهما ، وتصريحها بمنعهما . ومن وجه آخر ، أن [ ص: 111 ] النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهما بخطبتها تعريضا ، بقوله لها ما ذكرنا ، فكانت خطبته بعدهما مبنية على الخطبة السابقة لهما ، بخلاف ما نحن فيه . ( 5414 ) فصل : والتعويل في الرد والإجابة على الولي إن كانت مجبرة ، وعليها إن لم تكن مجبرة ; لأنها أحق بنفسها من وليها ، ولو أجاب هو ، ورغبت عن النكاح ، كان الأمر أمرها . وإن أجاب وليها ، فرضيت ، فهو كإجابتها ، وإن سخطت فلا حكم لإجابته ; لأن الحق لها . ولو أجاب الولي في حق المجبرة ، فكرهت المجاب ، واختارت غيره ، سقط حكم إجابة وليها ، لكون اختيارها مقدما على اختياره . وإن كرهته ولم تجز سواه ، فينبغي أن يسقط حكم الإجابة أيضا ; لأنه قد أمر باستئمارها ، فلا ينبغي له أن يكرهها على من لا ترضاه .

                                                                                                                                            وإن أجابته ، ثم رجعت عن الإجابة وسخطته ، زال حكم الإجابة ; لأن لها الرجوع . وكذلك إذا رجع الولي المجبر عن الإجابة ، زال حكمها ; لأن له النظر في أمر موليته ، ما لم يقع العقد . وإن لم ترجع هي ولا وليها ، ولكن ترك الخاطب الخطبة ، أو أذن فيها ، جازت خطبتها ; لما روي في حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم { ، أنه نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ، حتى يأذن له أو يترك . } رواه البخاري . ( 5415 ) فصل : وخطبة الرجل على خطبة أخيه في موضع النهي محرمة . قال أحمد : لا يحل لأحد أن يخطب في هذه الحال . وقال أبو حفص العكبري : هي مكروهة غير محرمة ، وهذا نهي تأديب لا تحريم .

                                                                                                                                            ولنا ، ظاهر النهي ، فإن مقتضاه التحريم ، ولأنه نهي عن الإضرار بالآدمي المعصوم ، فكان على التحريم ، كالنهي عن أكل ماله وسفك دمه ، فإن فعل فنكاحه صحيح . نص عليه أحمد فقال : لا يفرق بينهما . وهو مذهب الشافعي . وروي عن مالك وداود ، أنه لا يصح . وهو قياس قول أبي بكر ; لأنه قال في البيع على بيع أخيه : هو باطل . وهذا في معناه ، ووجهه أنه نكاح منهي عنه ، فكان باطلا كنكاح الشغار . ولنا ، أن المحرم لم يقارن العقد ، فلم يؤثر فيه ، كما لو صرح بالخطبة في العدة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية