الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5291 (10) باب

                                                                                              سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة ، ومن الفقير السابق

                                                                                              [ 2711 ] عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل ، فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : فإن لي خادما ، قال : فأنت من الملوك .

                                                                                              قال أبو عبد الرحمن : وجاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو بن العاص وأنا عنده فقالوا : يا أبا محمد ، إنا والله ما نقدر على شيء ، لا نفقة ولا دابة ولا متاع ، فقال لهم : ما شئتم ، إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم ، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان ، وإن شئتم صبرتم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا ، قالوا : فإنا نصبر لا نسأل شيئا .

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 169) ، ومسلم (2979) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و ( قول الرجل لعبد الله بن عمرو : ألسنا من الفقراء ؟) سؤال تقرير ، وكأنه سأل شيئا من الفيء الذي قال الله تعالى فيه : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ الحشر : 8 ] وكأن ذلك الرجل قال : ألسنا من الفقراء الذين يستحقون من الفيء سهما بنص القرآن ؟ وكأنه أنجز له مع ذلك الالتفات إلى الفقراء المهاجرين ، وتبجح به ، فأجابه عبد الله بما يكسر ذلك منه ، ويزيل آفة الالتفات إلى الأعمال بما يقتضي : أن الأحق باسم الفقر من المهاجرين من كان متجردا عن الأهل والمسكن ، كما كان حال أهل الصفة في أول الأمر . وصار معنى هذا الحديث إلى نحو قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصرعة " و " ليس المسكين بالطواف " ، فكأن عبد الله قال له : ليس الفقير المهاجر الذي تكون له زوجة ومسكن ، وإنما الفقير المتجرد عن ذلك ، ولم يرد أن من كان فقيرا مهاجريا ، له زوجة ومسكن ، أنه لا يستحق من الفيء شيئا ; لأن صاحب العيال الفقير أشد فاقة وبلاء ؟ ولأنه خلاف ما وقع لهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم بحسب فاقتهم وحاجتهم ، ويفضل في العطاء من له عيال على من ليس كذلك ، وكذلك فعل الخليفتان بعده ، على ما هو المعلوم من حالهما ، وإن حمل قول عبد الله على ظاهره لزم عليه : أن من كان له زوجة ومسكن لا غير ذلك ، لم يعد من الفقراء المهاجرين الذين وصفهم الله تعالى ، والذين يسبقون إلى الجنة ، فيلزم ألا يكون أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي من الفقراء من السابقين إلى الجنة ، وذلك باطل قطعا .

                                                                                              [ ص: 133 ] و (قوله : أنت من الملوك ) لما أخبره أن له خادما على جهة الإغياء والمبالغة ، لا أنه ألحقه بالملوك حقيقة ، ولا بالأغنياء ، ولا سلبه ذلك اسم الفقراء ، إذ لم يكن له غير ما ذكر ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله : جاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو ) هذه قضية أخرى غير القضية المتقدمة ، وإن اتفق راوياهما ، فإنهما من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ; لأن هؤلاء ثلاثة وذلك واحد ، ولأن مقصوده من هذا الحديث غير مقصوده من الأول ، وذلك أن هؤلاء الثلاثة شكوا إليه شدة فاقتهم ، وأنهم لا شيء لهم ، فخيرهم بين الصبر على ما هم فيه حتى يلقوا الله ، فيحصلون على ما وعدهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من السبق إلى الجنة قبل الناس كلهم ، وبين أن يرفع أمرهم إلى السلطان ، فيدفع إليهم ما يغنيهم ، وبين أن يواسيهم من ماله ، فاختار القوم البقاء على الحالة الأولى ، والصبر على مضض الفقر وشدته . ويفهم من هذا الحديث : أن مذهب عبد الله ، وهؤلاء الثلاثة : أن الفقر المدقع والتجرد عن المكتسبات كلها أفضل ، وقد بينا آنفا : أن المسألة مسالة خلاف ، وأن الكفاف أفضل على ما ذكرناه آنفا .

                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم : " إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة [ ص: 134 ] بأربعين خريفا ") هذا الحديث اختلفت ألفاظ الرواة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - الحديث المتقدم ، وروى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام " . قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . ويروى أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدخل الفقراء الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام ، نصف يوم " ، قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي طريق أخرى : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ، وهو خمسمائة عام " . وقال : حديث حسن صحيح ، وروي أيضا عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا " . قال : هذا حديث حسن صحيح ، فاختلفت هذه الأحاديث في أي الفقراء هم السابقون ، وفي مقدار المدة التي بها يسبقون ، فهذان موضعان ، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يرد مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيد روايته الأخرى ، ورواية جابر - رضي الله عنه - فيعني بالفقراء : فقراء المسلمين ، وحينئذ يكون حديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي سعيد ، مخصوصا بفقراء المهاجرين ، وحديث أبي هريرة وجابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين ، فيدخل الجنة فقراء كل قرن قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور ، وهذه طريقة حسنة ، ونزيدها وضوحا بما [ ص: 135 ] قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أصحاب الجد محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار ، يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم " ، وهذا واضح . وأما الموضع الثاني فقد تقدم : أن الخريف هو العام هنا ، وأصل الخريف : فصل من فصول السنة ، وهو الفصل الذي تخترف فيه الثمار ، أي : تجتنى ، فسمي العام بذلك ، ويمكن الجمع بين الأربعين وحديث الخمسمائة عام ; بأن سباق الفقراء يدخلون قبل سباق الأغنياء بأربعين عاما ، وغير سباق الأغنياء بخمسمائة عام ; إذ في كل صنف من الفريقين سباق ، والله أعلم .

                                                                                              وهذه الأحاديث حجة واضحة على تفضيل الفقر على الغنى ، ويتقرر ذلك من وجهين :

                                                                                              أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا لجبر كسر قلوب الفقراء ، ويهون عليهم ما يجدونه من مرارة الفقر ، وشدائده بمزية تحصل لهم في الدار الآخرة على الأغنياء ، عوضا لهم عما حرموه من الدنيا ، وصبرهم ، ورضاهم بذلك .

                                                                                              وثانيهما : أن السبق إلى الجنة ونعيمها أولى من التأخر عنها بالضرورة ، فهو أفضل .

                                                                                              وثالثها : أن السبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة والصراط ، أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة ، فالسابق إلى ذلك أفضل بالضرورة ، وحينئذ لا يلتفت لقول من قال : إن السبق إلى الجنة لا يدل على أفضلية السابق . وزخرف ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخليقة ، ومع ذلك فدخوله الجنة متأخر عن دخول هؤلاء الفقراء ; لأنهم يدخلون قبله ، وهو في أرض القيامة ; تارة عند الميزان ، [ ص: 136 ] وتارة عند الصراط ، وتارة عند الحوض ، كما قد أخبر عن ذلك فيما صح عنه ، وهذا قول باطل صدر عمن هو بما ذكرناه وبالنقل جاهل ، فكأنه لم يسمع ما تقدم في كتاب الإيمان من قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا أول من يقرع باب الجنة ، فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : أنا محمد . فيقول الخازن : بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك " . وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أول من يدخل الجنة ، ومعي فقراء المهاجرين " . وعلى هذا فيدخل الجنة ، ويتسلم ما أعد له فيها ، ويبوئ الفقراء منازلهم ، ثم يرجع إلى أرض القيامة ليخلص أمته بمقتضى ما جعل الله في قلبه من الحنو على أمته والشفقة عليهم ، والرأفة بهم ، فيلازمهم في أوقات شدائدهم ، ويسعى بمكنه في نجاتهم ، فيحضرهم عند وزن أعمالهم ، ويسقيهم عند ظمئهم ، ويدعو لهم بالسلامة عند جوازهم ، ويشفع لمن دخل النار منهم ، وهو مع ذلك كله في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القرب من الحق ، والجاه الذي لم ينله أحد غيره من الخلق ، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه الحكيم بألطف خطاب وأكرم تكليم ، كيف لا ، وهو يسمع : " يا محمد قل يسمع لك ، سل تعط ، اشفع تشفع ، فيقول : أمتي ! أمتي ! أمتي ، فيقال : انطلق فأدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن " . وهذه خطوة لا تتسع لها العبارات ، ولا تحيط بها الإشارات ، حشرنا الله في زمرته ، ولا خيبنا من شفاعته .

                                                                                              قال القاضي أبو الفضل : ويحتمل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة يتنعمون في أفنيتها وظلالها ، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد صلى الله عليه وسلم بعد تمام شفاعته ، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              [ ص: 137 ] قلت : وهذا لا يحتاج إلى تقديره ; لأن الذي هو فيه من النعيم بما ذكرناه ، أعلى وأشرف مما هم فيه ، فلا يكون سبقهم لأدون النعيمين أشرف ممن سبق إلى أعظمها ، وهذا واضح .




                                                                                              الخدمات العلمية