الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن المتقين في جنات وعيون ) بعد بيان حال المغترين المجرمين بين حال المحق المتقي ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قد ذكرنا أن المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك ، وأعلاها أن يتقي ما سوى الله ، وأدنى درجات المتقي الجنة ، فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة فيرزق نعيمها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الجنة تارة وحدها كما قال تعالى : ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) [ محمد : 15 ] وأخرى جمعها كما في هذا المقام قال : ( إن المتقين في جنات ) وتارة ثناها فقال تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [الرحمن : 46 ] فما الحكمة فيه ؟ نقول : أما الجنة عند التوحيد فلأنها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة ، وأما حكمة الجمع فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إلى جنانها جنات لا يحصرها عدد ، وأما التثنية فسنذكرها في سورة الرحمن غير أنا نقول ههنا الله تعالى عند الوعد وحد الجنة ، وكذلك عند الشراء حيث قال : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة , والخلاف ما لو وعد بجنات ، ثم كان يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالثة : قوله تعالى : ( وعيون ) يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء أو غير ذلك من المائعات ، نقول معناه في خلال العيون ، وذلك بين الأنهار بدليل أن قوله تعالى : ( في جنات ) ليس معناه إلا بين جنات وفي خلالها لأن الجنة هي الأشجار ، وإنما يكون بينها ، كذلك القول في العيون , والتنكير مع أنها معرفة للتعظيم يقال فلان رجل أي عظيم في الرجولية .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( آخذين ما آتاهم ربهم ) فيه مسائل ولطائف ، أما المسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            فالأولى منها : ما معنى آخذين ؟ نقول فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : قابضين ما آتاهم شيئا فشيئا ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى : ( ويأخذ الصدقات ) [ التوبة : 104 ] أي يقبلها ، وهذا ذكره الزمخشري ( وفيه وجه ثالث ) وهو أن قوله : ( في جنات ) يدل على السكنى فحسب وقوله : ( آخذين ) يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكا لها ، وكذلك يقال لمن اشترى دارا أو بستانا أخذه بثمن قليل أي تملكه ، وإن لم يكن هناك قبض حسا ولا قبول برضا ، وحينئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك ، بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله تعالى وقوله : ( آتاهم ) يكون لبيان أن أخذهم ذلك لم يكن عنوة وفتوحا ، وإنما كان [ ص: 173 ] بإعطاء الله تعالى ، وعلى هذا الوجه ما راجعة إلى الجنات والعيون .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ) إشارة إلى ثمنها أي أخذوها وملكوها بالإحسان ، كما قال تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى ) [ يونس : 26 ] بلام الملك وهي الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : آخذين حال وهو في معنى قول القائل يأخذون فكيف قال ما آتاهم ولم يقل ما يؤتيهم ليتفق اللفظان ، ويوافق المعنى ; لأن قوله : ( آتاهم ) ينبئ عن الانقراض وقوله : ( يؤتيهم ) [ النساء : 152 ] تنبيه على الدوام وإيتاء الله في الجنة كل يوم متجدد ولا نهاية له ، ولا سيما إذا فسرنا الأخذ بالقبول ، كيف يصح أن يقال فلان يقبل اليوم ما آتاه زيد أمس ؟ نقول : أما على ما ذكرنا من التفسير لا يرد لأن معناه يتملكون ما أعطاهم ، وقد يوجد الإعطاء أمس ويتملك اليوم ، وأما على ما ذكروه فنقول الله تعالى أعطى المؤمن الجنة وهو في الدنيا غير أنه لم يكن جنى ثمارها فهو يدخلها على هيئة الآخذ وربما يأخذ خيرا مما آتاه ، ولا ينافي ذلك كونه داخلا على تلك الهيئة ، يقول القائل : جئتك خائفا فإذا أنا آمن ، وما ذكرتم إنما يلزم أن لو كان أخذهم مقتصرا على ما آتاهم من قبل ، وليس كذلك وإنما هم دخلوها على ذلك ولم يخطر ببالهم غيره فيؤتيهم الله ما لم يخطر ببالهم فيأخذون ما يؤتيهم الله وإن دخلوها ليأخذوا ما آتاهم ، وقوله تعالى : ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل ) [ يس: 55] هو أخذهم ما آتاهم وقد ذكرناه في سورة يس .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ذلك إشارة إلى ماذا ؟ نقول : يحتمل وجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : قبل دخولهم لأن قوله تعالى : ( في جنات ) فيه معنى الدخول يعني قبل دخولهم الجنة أحسنوا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيهما : قبل إيتاء الله ما آتاهم الحسنى وهي الجنة فأخذوها ، وفيه وجوه أخر ، وهو أن ذلك إشارة إلى يوم الدين وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            ( وأما اللطائف ) فقد سبق بعضها ، ومنها أن قوله تعالى : ( إن المتقين ) لما كان إشارة إلى التقوى من الشرك كان كأنه قال الذين آمنوا ، لكن الإيمان مع العمل الصالح يفيد سعادتين ، ولذلك دلالة أتم من قول القائل إنهم أحسنوا .

                                                                                                                                                                                                                                            ( اللطيفة الثانية ) أما التقوى فلأنه لما قال لا إله فقد اتقى الشرك ، وأما الإحسان فلأنه لما قال إلا الله فقد أتى بالإحسان ، ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إله إلا الله وفي الإحسان قال تعالى : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) [ فصلت : 33 ] وقيل في تفسير : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) [الرحمن : 60 ] إن الإحسان هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله وهما حينئذ لا يتفاصلان بل هما متلازمان .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية