الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
السابع : الحذف المقابلي : وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان ، فيحذف من واحد منهما مقابلة ; لدلالة الآخر عليه ، كقوله تعالى : أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ( هود : 35 ) الأصل : فإن افتريته فعلي إجرامي ، وأنتم برآء منه ، وعليكم إجرامكم ، وأنا بريء مما تجرمون .

فنسبة قوله تعالى : " إجرامي " وهو الأول إلى قوله : " وعليكم إجرامكم " وهو الثالث ، كنسبة قوله : " وأنتم برآء منه " وهو الثاني ، إلى قوله تعالى : وأنا بريء مما تجرمون ( هود : 35 ) ، وهو الرابع ، واكتفى من كل متناسبين بأحدهما .

[ ص: 201 ] ومنه قوله تعالى : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ( الأنبياء : 5 ) تقديره : إن أرسل فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ، فأتوا بآية .

وقوله تعالى : ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ( الأحزاب : 24 ) تقديره كما قال المفسرون : " ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم ، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم " عند ذلك يكون مطلق قوله : فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم مقيدا بمدة الحياة الدنيا .

وقوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ( البقرة : 222 ) فتقديره : لا تقربوهن حتى يطهرن ويطهرن ; فإذا طهرن وتطهرن فأتوهن ، وهو قول مركب من أربعة أجزاء ; نسبة الأول إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الرابع ; ويحذف من أحدهما لدلالة الآخر عليه .

واعلم أن دلالة السياق قاطعة بهذه المحذوفات ; وبهذا التقدير يعتضد القول بالمنع من وطء الحائض إلا بعد الطهر والتطهر جميعا ; وهو مذهب الشافعي .

ومنه قوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ( النمل : 12 ) تقديره : " أدخل يدك تدخل ، وأخرجها تخرج " إلا أنه قد عرض في هذه المادة تناسب بالطباق ; فلذلك بقي القانون فيه ، الذي هو نسبة الأول إلى الثالث ، ونسبة الثاني إلى الرابع ، على حالة الأكثرية ; فلم يتغير عن موضعه ; ولم يجعل بالنسبة التي بين الأول والثاني ، وبين الثالث والرابع ، وهي نسبة النظير ، كقوله : [ ص: 202 ]

وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر

أي : هزة بعد انتفاضة ، كما انتفض العصفور بلله القطر ، ثم اهتز .

كذا قاله جماعة .

وأنكره ابن الصائغ وقال : هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولو يكون لكان خلفا ، وإنما أحوجهم إليه أنهم رأوا أنه لا يلزم من إدخالها خروجها ، و " يخرج " مجزوم على الجواب ، فاحتاج أن تقدر جوابا لازما ، وشرطا ملزوما حذفا ; لأنهما نظير ما ثبت ; لكن وقع في تقدير ما لا يفيد ; لأنه معلوم أنه إن أدخلها تدخل ، لكنه قد يقدره تقديرا بعيدا ، وهو : " أدخلها تدخل كما هي ، وأخرجها تخرج بيضاء " وهو بعد ذلك ضعيف ، فيقال له : لا يلزم في الشرط وجوابه أن يكون اللزوم بينهما ضروريا بالفعل ، فإذا قيل : إن جاءني زيد أكرمته ، فهذا اللازم بالوضع ، وليس بالضرورة ، والإكرام لازم للمجيء ، بل لوضع المتكلم فالموضوع هنا أن الإدخال سبب في خروجها بيضاء بقدرة الله تعالى ; ألا ترى أنه لا يلزم من إخراجها أن تخرج بيضاء لزوما ضروريا إلا بضرورة صدق الوعد .

فإن قال : لم أرد هذا ; وإنما أردت أنها لا تخرج إلا حتى تخرج .

قيل : هذا من المعلوم الذي لا معنى للتنصيص عليه .

ومنه قوله تعالى : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ( التوبة : 102 ) ، أصل الكلام : خلطوا عملا صالحا بسيئ ، وآخر سيئا بصالح ; لأن الخلط يستدعي مخلوطا ومخلوطا به ; أي : تارة أطاعوا وخلطوا الطاعة بكبيرة ، وتارة عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة .

[ ص: 203 ] وقوله : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي . . .

( طه : 123 ) الآية ، فإن مقتضى التقسيم اللفظي : من اتبع الهدى فلا خوف ولا حزن يلحقه ، وهو صاحب الجنة ، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن وهو صاحب النار ; فحذف من كل ما أثبت نظيره في الأخرى .

قيل : ومنه قوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ( البقرة : 171 ) قال سيبويه في " باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى " : لم يشبهوا بالناعق وإنما شبهوا بالمنعوق به ; وإنما المعنى : " ومثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع إلا دعاء ; ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى .

انتهى .

والذي أحوجه إلى هذا التقدير أنه لما شبه الذين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا بناه على أن الناعق بمعنى الداعي ; وليس بمتعين ; لجواز ألا يراد به الداعي ; بل الناعق من الحيوان شبههم في تألفهم وتأتيهم بما ينعق من الغنم بصاحبه ; من أنهم يدعون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ما يريده ، فيكون ثم حذف .

وقيل : ليس من هذا النوع إلا الاكتفاء من الأول بالثالث ; لنسبة بينهما ، وذلك أنه اكتفى بالذي ينعق - وهو الثالث المشبه به - عن المشبه ، وهو الكناية المضاف إليها في قوله : ومثلك ، وهو الأول وأقرب إلى هذا التشبيه المركب والمقابلة ، وهو الذي غلط من وضعه في هذا النوع ، وإنما هو من نوع الاكتفاء للارتباط العطفي على ما سلف .

وقد قال الصفار : هذا الذي صار إليه سيبويه - من أنه حذف من الأول المعطوف عليه ، ومن الثاني المعطوف - ضعيف لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند الضرورة ; لأن فيه حذفا كثيرا مع إبقاء حرف [ ص: 204 ] العطف وهو الواو ، ألا ترى أن ما قبلها مستأنف ، والأصل " مثلك ومثلهم " ، إلا أن يدعي أن الأصل " ومثلك ومثلهم " ثم حذف " مثلك " والواو التي عطفت ما بعدها ، وبقيت الواو الأولى ; ويزعم أن الكلام ربط مع ما قبله بالواو ; وليس بينهما ارتباط .

وفيه ما ترى .

وقال ابن الحجاج : عندي أنه لا حذف في الآية ، والقصد تشبيه الكفار في عبادتهم الأصنام بالذي ينعق بما لا يسمع ، فهو تمثيل داع بداع محقق لا حذف فيه ، والكفار على هذا داعون وعلى التأويل الأول مدعوون .

ونظيرها قوله تعالى : أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ( الملك : 22 ) فإن فيه جملتين ; حذف نصف كل واحدة منهما اكتفاء بنصف الأخرى ، وأصل الكلام : أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ممن يمشي سويا على صراط مستقيم ، أمن يمشي سويا على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا .

وإنما قلنا : إن أصله هكذا ; لأن أفعل التفضيل لا بد في معناه من المفضل عليه ، وهاهنا وقع السؤال عمن في نفس الأمر : هل هذا أهدى من ذلك أم ذاك أهدى من هذا ؟ فلا بد من ملاحظة أربعة أمور ، وليس في الآية إلا نصف إحدى الجملتين ونصف الأخرى ، والذي حذف من هذه مذكور في تلك ، والذي حذف من تلك [ ص: 205 ] مذكور في هذه ، فحصل المقصود مع الإيجاز والفصاحة ، ثم ترك أمر آخر لم يتعرض له ; وهو الجواب الصحيح لهذين الاستفهامين ، وأيهما هو الأهدى ، لم يذكره في الآية أصلا ; اعتمادا على أن العقل يقول : الذي يمشي على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا على وجهه .

وهذا كقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق ( النحل : 17 ) وقوله : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( الزمر : 9 ) فائدة قد يحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وقد يعكس ، وقد يحتمل اللفظ الأمرين .

فالأول كقوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي ( الأحزاب : 56 ) في قراءة من رفع " ملائكته " ، أي : إن الله يصلي ، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وليس عطفا عليه .

والثاني كقوله : يمحوا الله ما يشاء ويثبت ( الرعد : 39 ) أي : ما يشاء .

وقوله : أن الله بريء من المشركين ورسوله ( التوبة : 3 ) أي : بريء أيضا .

وقوله : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ( إبراهيم : 48 ) .

وقوله : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ( الطلاق : 4 ) أي : كذلك .

[ ص: 206 ] وجعل منه أبو الفتح قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر ( مريم : 38 ) التقدير : وأبصر بهم ، لكنه حذف لدلالة ما قبله عليه ، حيث كان بلفظ الفضلة ; وإن كان ممتنعا في الفاعل ، وهذا التوجيه إنما يتم إذا قلنا : إن الجار والمجرور في أسمع بهم وأبصر في محل الرفع ، فإن قلنا : في محل النصب فلا .

وقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( الزمر : 38 ) والتقدير : خلقهن الله ، فحذف " خلقهن " لقرينة تقدمت في السؤال .

وقوله : سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين ( الصافات : 109 - 110 ) ، ولم يقل : " إنا كذلك " اختيارا واستغناء عنه بقوله فيما سبق : إنا كذلك ( الصافات : 105 ) .

والثالث كقوله تعالى : والله ورسوله أحق أن يرضوه ( التوبة : 62 ) فقد قيل : إن " أحق " خبر عن اسم الله تعالى ، وقيل : بالعكس .

وأما قوله تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ( النساء : 140 ) فالفائدة في إعادة الجار والمجرور أعني " بها " ; لأنه لو حذف من الثاني لم يحصل الربط ; لوجوب الضمير فيما وقع مفعولا ثانيا أو كالمفعول الثاني لـ " سمعتم " ، ولو حذف من الأول لم يكن نصا على أن الكفر يتعلق بالإثبات ; لجواز أن يكون متعلق الأول غير متعلق الثاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية