الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الأرض موطن التكليف

                                                          خرج آدم وزوجه من الجنة ، ولم يكن فيها تكليف إلا أمرهما بألا يأكلا من شجرة معينة ، خرجا إلى هذه الأرض ، وكان التكليف ، وكان اختبار بني آدم فيها ، وعلى قدر ما يفعلون من خير يكون جزاء الخير ، وعلى قدر ما يكسبون من إثم يكون جزاؤه ، وفي كل نفس استعداد للخير ، وللشر ، والخير هو الأصل ; ولذا قال تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، فكانت النفس الأمارة بالسوء بجوار النفس اللوامة فكان الاختبار بعد هبوط الأرض .

                                                          قال تعالى بعد قصة الخلق والتكوين :

                                                          * * *

                                                          قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

                                                          * * *

                                                          جاء التكليف عند نزول الأرض ، وقوله : (قلنا ) معناه أنه أخرج من الجنة ، وقال له تعالى بلسان التكوين : اهبطوا ، والهبوط هنا معنوي أو حسي ، والمعنوي أنهم نزلوا من الجنة حيث كان القرب من الملائكة الأطهار ، وحيث كان العيش رغدا لا مشقة فيه ، ولا جهد ، بل هو راحة واطمئنان - إلى حيث اللغوب والمشقة ، والمعترك الذي يكون فيه الغلب والقهر والانهزام ، وحسي لأنه نزول من مكان عال إلى أدنى منه ، والهبوط المعنوي ظاهر ، ولذا نقتصر عليه ، لأن الحسي غير ظاهر ، وإذا كان الهبوط حيث التكليف فالجميع يهبطون : آدم وزوجه وإبليس ، والتكليف على الجميع ، فكل ينال أثر عمله .

                                                          [ ص: 203 ] وقوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي يدل على أن الله تعالى يرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، فالهدى الذي يجيء من قبل الله تعالى هو ما يكون بالرسالة الإلهية التي تكون عن طريق من يرسلهم الله تعالى مؤيدين بالمعجزات الظاهرة الباهرة .

                                                          وقوله تعالى : (فإما ) فيه " ما " زائدة في الإعراب ، وليست زائدة في البيان ; لأنها دالة على تأكيد الإتيان ; ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدا وجوبيا عند أكثر علماء البيان ، كالقسم لأن إما في معناه ، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط ، وهنالك تأكيد لجواب القسم - وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه .

                                                          وتنكير هدى هنا للتعظيم والتكثير ، فهو هدى يهدي إلى الحق ، ويهدي إلى حياة قويمة مستقيمة ، ويهدي إلى النفع الإنساني العام ، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها ، وإلى الفضيلة الإنسانية ، والعدالة في كل نواحي الحياة . وجواب الشرط في قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى هو قوله تعالى : فمن تبع هداي فلا خوف أي أن الذين يتبعون ما يجيء به النبيون من رسالات إلهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى ، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته ، ولا يعاقبون ; ولذا قال تعالى : فلا خوف عليهم ، وهو جواب فمن تبع لأنها هي الأخرى شرط ، فكان جواب فإما يأتينكم مني هدى جملة شرطية ، أي فيها شرط وجواب ، فقوله تعالى : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب شرط الثانية .

                                                          ومعنى فلا خوف عليهم أنهم يكونون في أمن من عذاب الله تعالى ، ولا يحزنون على أمر فاتهم ، لأنهم سبقت طاعتهم ، ولا يكونون في حال حزن ، بل في سرور ، وعلى سرر متقابلين .

                                                          [ ص: 204 ] وليسوا كالذين يخضعون لوسوسة إبليس ، وإغرائه ، فلا يطيعون ، ويجحدون ، ولذا ذكر عقوبة الأشرار بجوار ثواب الأخيار ليدرك أهل الحق الفرق بين الفريقين ، فقال تعالى : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وكفروا معناها جحدوا أو ستروا ينابيع الإيمان في قلوبهم ، وأفسدوا فطرة الله تعالى ، وكذبوا بآياتنا .

                                                          وآيات الله تعالى آيات كونية ، وهي خلق السماوات والأرض وكل ما في الكون مما يدل على الله تعالى ، وأنه خالق كل شيء ، وآيات تجيء على أيدي الرسل الذين يجيئون بهدى الله سبحانه ، وهي المعجزات التي تدل على أن حامليها رسل من عند الله سبحانه وتعالى العلي القدير ، وآيات تتلى في كتبه .

                                                          وقد كذبوا بكل هذه الآيات ، ولذا قال سبحانه وتعالى : (كذبوا بآياتنا ) أي طمس الله تعالى على بصائرهم فلا يدركون حقا ، ولا يذعنون لدليل ، ولو كان من عند العزيز العليم .

                                                          وكما ذكر سبحانه جزاء الذين اتبعوا الهدى ، وآمنوا بالحق ، وهو أنهم لا يخافون ، ولا يحزنون ، وذكر الخوف بقوله تعالى : فلا خوف عليهم أي لا ننزل بهم ما يوجب الخوف .

                                                          كما ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالآيات والعظات ، ذكر جزاء الكافرين فقال تعالى : أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

                                                          ذكر الله سبحانه وتعالى عقوبتهم في الآخرة بهذا النص السامي ، فابتدأ باسم الإشارة ، وقد ذكرنا آنفا أن الإشارة إلى المذكور بصفات تكون الإشارة إلى الصفات ، وفيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم التالي الذي هو خبر اسم الإشارة ، والحكم أنهم أصحاب النار ، أي أنهم الملازمون للنار لا يفارقونها ، ولا تتخلى عنهم [ ص: 205 ] كما لا يتخلى الصاحب عن صاحبه ، وذكر سبحانه وتعالى أنهم خالدون فيها ، فقال تعالى : هم فيها خالدون ، وقد أكد خلودهم في النار بالجملة الاسمية ، وتقديم الجار والمجرور ، أي هم خالدون ، وخلودهم مقصور عليها ، فلا حول لهم ولا قوة .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية