الآية الموفية عشرين قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=125وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا }
هذا تنبيه من الله تعالى لعباده على فضله ، وتعديد لنعمه التي منها
جعل البيت الحرام للعرب عموما ولقريش خصوصا مثابة للناس أي معادا في كل عام لا يخلو منهم ، يقال : ثاب إلى كذا أي : رجع وعاد إليه ، فإن قيل : ليس كل من جاءه عاد إليه .
قلنا : لا يختص ذلك بمن ورد عليه ، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة ، ولم يعدم قاصدا من الناس ; وكذلك جعله تبارك وتعالى أمنا يلقى الرجل فيه قاتل وليه فلا يروعه .
وهذا كقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=97ومن دخله كان آمنا }
وكذلك : {
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=67أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم }
وهذا لما كان الله تعالى قد ركب في قلوبهم من
تعظيم البقعة وتفضيل الموضع على غيره من الأرض المشابهة له في الصفة ، بهذه الخصيصى المعظمة .
وقد سمعت أن الكلب الخارج من
الحرم لا يروع الصيد بها ، وهذا من آيات الله تعالى فيها ; وهذا اللفظ وإن كان ورد
بالبيت ، فإن المراد به
الحرم كله ; لأن الفائدة فيه كانت وعليه دامت .
وقد اختلف العلماء في تفسير الأمن على أربعة أقوال : الأول : أنه أمن من عذاب الله تعالى في الآخرة ، والمعنى أن من دخله معظما له
[ ص: 58 ] وقصده محتسبا فيه لمن تقدم إليه .
ويعضده ما روي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36203من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه } .
الثاني : معناه من دخله كان آمنا من التشفي والانتقام ، كما كانت
العرب تفعله فيمن أناب إليه من تركها لحق يكون لها عليه .
الثالث : أنه أمن من حد يقام عليه ، فلا يقتل به الكافر ، ولا يقتص فيه من القاتل ، ولا يقام الحد على المحصن والسارق ; قاله جماعة من فقهاء الأمصار ، ومنهم
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة ، وسيأتي عليه الكلام .
الرابع : أنه أمن من القتال ; لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11290إن الله حبس عن مكة الفيل أو القتل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار } .
والصحيح فيه القول الثاني ، وهذا إخبار من الله تعالى عن منته على عباده ، حيث قرر في قلوب
العرب تعظيم هذا
البيت ، وتأمين من لجأ إليه ; إجابة لدعوة
إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين أنزل به أهله وولده ، فتوقع عليهم الاستطالة ، فدعا أن يكون أمنا لهم فاستجيب دعاؤه .
[ ص: 59 ] وأما من قاله : إنه أمن من عذاب الله تعالى ، فإن الله تعالى نبه بجعله مثابة للناس وأمنا على حجته على خلقه ، والأمن في الآخرة لا تقام به حجة .
وأما امتناع الحد فيه فقول ساقط ; لأن الإسلام الذي هو الأصل ، وبه اعتصم
الحرم ، لا يمنع من إقامة الحدود والقصاص ; وأمر لا يقتضيه الأصل أحرى ألا يقتضيه الفرع .
وأما الأمن عن القتل والقتال [ فقول لا يصح ; لأنه قد كان فيه القتل والقتال ] بعد ذلك ويكون إلى يوم القيامة ، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن التحليل للقتال ، فلا جرم لم يكن فيها تحليل قبل ذلك اليوم ، ولا يكون لعدم النبوة إلى يوم القيامة ، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن امتناع تحليل القتال شرعا لا عن منع وجوده حسا .
الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=125وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا }
هَذَا تَنْبِيهٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى فَضْلِهِ ، وَتَعْدِيدٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي مِنْهَا
جَعَلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْعَرَبِ عُمُومًا وَلِقُرَيْشٍ خُصُوصًا مَثَابَةً لِلنَّاسِ أَيْ مَعَادًا فِي كُلِّ عَامٍ لَا يَخْلُو مِنْهُمْ ، يُقَالُ : ثَابَ إلَى كَذَا أَيْ : رَجَعَ وَعَادَ إلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَاءَهُ عَادَ إلَيْهِ .
قُلْنَا : لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْجُمْلَةِ ، وَلَمْ يَعْدَمْ قَاصِدًا مِنْ النَّاسِ ; وَكَذَلِكَ جَعَلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْنًا يَلْقَى الرَّجُلُ فِيهِ قَاتِلَ وَلِيِّهِ فَلَا يُرَوِّعُهُ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=97وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا }
وَكَذَلِكَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=67أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ }
وَهَذَا لِمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ رَكَّبَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ
تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ وَتَفْضِيلِ الْمَوْضِعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَرْضِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ فِي الصِّفَةِ ، بِهَذِهِ الْخِصِّيصَى الْمُعَظَّمَةِ .
وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الْكَلْبَ الْخَارِجَ مِنْ
الْحَرَمِ لَا يُرَوِّعُ الصَّيْدَ بِهَا ، وَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا ; وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ وَرَدَ
بِالْبَيْتِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ
الْحَرَمُ كُلُّهُ ; لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهِ كَانَتْ وَعَلَيْهِ دَامَتْ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ مُعَظِّمًا لَهُ
[ ص: 58 ] وَقَصَدَهُ مُحْتَسِبًا فِيهِ لِمَنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ .
وَيَعْضُدُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36203مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
الثَّانِي : مَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ ، كَمَا كَانَتْ
الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِيمَنْ أَنَابَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِهَا لِحَقٍّ يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ حَدٍّ يُقَامُ عَلَيْهِ ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْكَافِرُ ، وَلَا يُقْتَصُّ فِيهِ مِنْ الْقَاتِلِ ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالسَّارِقِ ; قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، وَمِنْهُمْ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ ، وَسَيَأْتِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ الْقِتَالِ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11290إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
وَالصَّحِيحُ فِيهِ الْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهَذَا إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مِنَّتِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، حَيْثُ قَرَّرَ فِي قُلُوبِ
الْعَرَبِ تَعْظِيمَ هَذَا
الْبَيْتِ ، وَتَأْمِينَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ ; إجَابَةً لِدَعْوَةِ
إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ بِهِ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ، فَتَوَقَّعَ عَلَيْهِمْ الِاسْتِطَالَةَ ، فَدَعَا أَنْ يَكُونَ أَمْنًا لَهُمْ فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ .
[ ص: 59 ] وَأَمَّا مَنْ قَالَهُ : إنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ بِجَعْلِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا عَلَى حُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ لَا تُقَامُ بِهِ حُجَّةٌ .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْحَدِّ فِيهِ فَقَوْلٌ سَاقِطٌ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ ، وَبِهِ اعْتَصَمَ
الْحَرَمُ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ; وَأَمْرٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَحْرَى أَلَا يَقْتَضِيهِ الْفَرْعُ .
وَأَمَّا الْأَمْنُ عَنْ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ [ فَقَوْلٌ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ ] بَعْدَ ذَلِكَ وَيَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّحْلِيلِ لِلْقِتَالِ ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَحْلِيلٌ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَلَا يَكُونُ لِعَدَمِ النُّبُوَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ امْتِنَاعِ تَحْلِيلِ الْقِتَالِ شَرْعًا لَا عَنْ مَنْعِ وُجُودِهِ حِسًّا .