الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون

                                                                                                                                                                                                                                      قد تقدم ما ذكرناه في قصة ذبح البقرة ، فيكون تقدير الكلام إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقال موسى لقومه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة إلى آخر القصة ، وبعدها فقلنا اضربوه ببعضها الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الرازي في تفسيره : اعلم أن وقوع القتل لا بد أن يكون متقدما لأمره تعالى بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل ، وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدما على الإخبار عن قصة البقرة ، فقول من يقول : هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ ، لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم ، وأخرى على العكس من ذلك ، فكأنهم لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله بذبح البقرة ، فلما ذبحوها قال : وإذ قتلتم نفسا من قبل ، ونسب القتل إليهم بكون القاتل منهم ، وأصل ( ادارأتم ) تدارأتم ، ثم أدغمت التاء في الدال ، ولما كان الابتداء بالمدغم الساكن لا يجوز زادوا ألف الوصل ، ومعنى ( ادارأتم ) : اختلفتم وتنازعتم ، لأن المتنازعين يدرأ بعضهم بعضا : أي يدفعه ، ومعنى ( مخرج ) : مظهر ، أي ما كتمتم بينكم من أمر القتل فالله مظهره لعباده ومبينه لهم ، وهذه الجملة معترضة بين أجزاء [ ص: 68 ] الكلام : أي فادارأتم فيها فقلنا .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في تعيين البعض الذي أمروا بأن يضربوا القتيل به ، ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم ، ويكفينا أن نقول : أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها ، فأي بعض ضربوا به فقد فعلوا ما أمروا به ، وما زاد على هذا فهو من فضول العلم إذا لم يرد به برهان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله كذلك يحيي الله الموتى في الكلام حذف ، والتقدير فقلنا اضربوه ببعضها فأحياه الله كذلك يحيي الله الموتى أي إحياء كمثل هذا الإحياء .

                                                                                                                                                                                                                                      ويريكم آياته أي علاماته ودلائله الدالة على كمال قدرته ، وهذا يحتمل أن يكون خطابا لمن حضر القصة ، ويحتمل أن يكون خطابا للموجودين عند نزول القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      والقسوة : الصلابة واليبس ، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله مع وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل وتكلمه وتعيينه لقاتله ، والإشارة بقوله : من بعد ذلك . إلى ما تقدم من الآيات الموجبة للين القلوب ورقتها .

                                                                                                                                                                                                                                      قيل : " أو " في قوله : أو أشد قسوة بمعنى الواو كما في قوله تعالى : آثما أو كفورا وقيل : هي بمعنى ( بل ) وعلى أن " أو " على أصلها أو بمعنى الواو ، فالعطف على قوله : ( كالحجارة ) أي هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشد قسوة منها ، فشبهوها بأي الأمرين شئتم فإنكم مصيبون في هذا التشبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع " أو " هاهنا مع كونها للترديد ، أي لا يليق لعلام الغيوب ، بثمانية أوجه ، وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بـ ( أشد ) مع كونه يصح أن يقال : وأقسى من الحجارة ، لكونه أبين وأدل على فرط القسوة ، كما قاله في الكشاف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش " أو أشد " بنصب الدال ، وكأنه عطفه على الحجارة فيكون ( أشد ) مجرورا بالفتحة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وإن من الحجارة إلى آخره ، قال في الكشاف : إنه بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة وتقرير لقوله أو أشد قسوة انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه أن مجيء البيان بالواو غير معروف ولا مألوف ، والأولى جعل ما بعد الواو تذييلا أو حالا .

                                                                                                                                                                                                                                      التفجر : التفتح ، وقد سبق تفسيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل ( يشقق ) يتشقق أدغمت التاء في الشين ، وقد قرأ الأعمش " يتشقق " على الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مصرف " ينشق " بالنون ، والشق واحد الشقوق ، وهو يكون بالطول أو بالعرض ، بخلاف الانفجار فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد : أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار والانشقاق ، ومن الحجارة ما يهبط ، أي ينحط من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله وتحل به ، وقيل : إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها ، والتواضع الكائن فيها انقيادا لله عز وجل ، فهو مثل قوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وقد حكى ابن جرير عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار ، وكما قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله : ( وإن منها ) راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة ، وهو فاسد ، فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة ، التي هي أشد الأجسام صلابة وأعظمها صلادة ، فإنها ترجع إلى نوع من اللين ، وهو تفجرها بالماء وتشققها عنه وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع والانقياد بخلاف تلك القلوب .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : وما الله بغافل عما تعملون من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى ، فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه مطلعا عليه غير غافل عنه كان لمجازاتهم بالمرصاد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها قال : اختلفتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون قال : ما تغيبون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن المسيب بن رافع قال : " ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله " ، وتصديق ذلك في كتاب الله والله مخرج ما كنتم تكتمون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن رجلا عمل عملا في صخرة صماء لا باب لها ولا كوة خرج عمله إلى الناس كائنا ما كان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي من حديث عثمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له سريرة صالحة أو سيئة أظهر الله عليه منها رداء يعرف به ورواه البيهقي أيضا بنحوه من قول عثمان قال : والموقوف أصح .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس مرفوعا حديثا طويلا في هذا المعنى ، ومعناه : أن الله يلبس كل عامل عمله حتى يتحدث به الناس ويزيدون ، ولو عمله في جوف بيت إلى سبعين بيتا على كل بيت باب من حديد ، وفي إسناده ضعف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عدي من حديث أنس أيضا مرفوعا إن الله مرد كل امرئ رداء عمله .

                                                                                                                                                                                                                                      ولجماعة من الصحابة والتابعين كلمات تفيد هذا المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : فقلنا اضربوه ببعضها قال : ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنهم ضربوه بفخذها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن السدي قال : ضرب بالبضعة التي بين الكتفين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبه قصة طويلة في ذكر البقرة وصاحبها لا حاجة إلى التطويل بذكرها ، وقد استوفاها في الدر المنثور .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك قال : من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ومن بعد ما أراهم من أمر القتيل فهي كالحجارة أو أشد قسوة ثم عذر الله الحجارة ولم يعذر [ ص: 69 ] شقي بني آدم فقال : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن الحجر ليقع على الأرض ولو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوه وإنه ليهبط من خشية الله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية