الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الثامن : الاختزال ، وهو الافتعال ، من خزله قطع وسطه ، ثم نقل في الاصطلاح إلى حذف كلمة أو أكثر ، وهي إما اسم ، أو فعل ، أو حرف .

[ ص: 207 ] الأول : الاسم فمنه حذف المبتدأ ، كقوله تعالى : سيقولون ثلاثة و ( خمسة ) و ( سبعة ) ( الكهف : 22 ) ، أي : هم ثلاثة ، وهم خمسة ، وهم سبعة .

وقوله : قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة ( آل عمران : 13 ) أي : إحداهما بدليل قوله بعده : وأخرى كافرة ( آل عمران : 13 ) .

وقوله : بلاغ فهل يهلك ( الأحقاف : 35 ) أي : هذا بلاغ .

وقوله : بل عباد مكرمون ( الأنبياء : 26 ) أي : هم عباد .

وعلى هذا قال أبو علي : قوله تعالى : بشر من ذلكم النار ( الحج : 72 ) أي : هي النار .

وقوله : وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار ( غافر : 45 - 46 ) أي : هو النار .

ويمكن أن يكون " النار " في الآيتين مبتدأ ، والخبر الجملة التي بعدها ، ويمكن في الثانية أن تكون النار بدلا من سوء العذاب .

وقوله : فقالوا ساحر كذاب ( غافر : 24 ) أي : هذا ساحر .

وقوله : إلا قالوا ساحر أو مجنون ( الذاريات : 52 ) ، قالوا أساطير الأولين ( الفرقان : 5 ) .

وقل الحق من ربكم ( الكهف : 29 ) أي : هذا الحق من ربكم ; وليس هذا [ ص: 208 ] كما يظنه بعض الجهال ، أي : قل القول الحق ; فإنه لو أريد هذا لنصب " الحق " والمراد إثبات أن القرآن حق ، ولهذا قال : من ( ربكم ) وليس المراد هنا قول حق مطلق ; بل هذا المعنى مذكور في قوله : وإذا قلتم فاعدلوا ( الأنعام : 152 ) وقوله : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ( الأعراف : 169 ) .

وقوله : سورة أنزلناها ( النور : 1 ) أي : هذه سورة .

من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ( فصلت : 46 ) أي : فعمله لنفسه ، وإساءته عليها ، وقوله : وإن مسه الشر فيئوس قنوط ( فصلت : 49 ) أي : فهو يئوس ، لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ( آل عمران : 196 - 197 ) أي : تقلبهم متاع ، أو ذاك متاع . وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة ( الهمزة : 5 - 6 ) أي : والحطمة نار الله .

إنها ترمي بشرر كالقصر ( المرسلات : 32 ) أي : كل واحدة منها كالقصر ، فيكون من باب قوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة ( النور : 4 ) أي : كل واحد منهم ، والمحوج إلى ذلك أنه لا يجوز أن يكون الشرر كله كقصر واحد ، والقصر هو البيت من أدم كان يضرب على المال ، ويؤيده قوله : جمالة صفر ( المرسلات : 33 ) أفلا تراه كيف شبهه بالجماعة ، أي : كل واحدة من الشرر كالجمل لجماعاته ، فجماعاته إذن مثل الجمالات الصفر ، وكذلك الأول ، شررة منه كالقصر ، قاله أبو الفتح بن جني .

وأما قوله : ولا تقولوا ثلاثة ( النساء : 171 ) فقيل : إن " ثلاثة " خبر مبتدأ محذوف تقديره " آلهتنا ثلاثة " .

[ ص: 209 ] واعترض باستلزامه إثبات الإلهية لانصراف النفي الداخل على المبتدأ أو الخبر إلى المعنى المستفاد من الخبر لا إلى معنى المبتدأ ، وحينئذ يقتضي نفي عدة الآلهة لا نفي وجودهم .

قيل : وهو مردود ; لأن نفي كون آلهتهم ثلاثة يصدق بألا يكون للآلهة الثلاثة وجود بالكلية ; لأنه من السالبة المحصلة فمعناه ليس آلهتكم ثلاثة ، وذلك يصدق بألا يكون لهم آلهة ، وإنما حذف إيذانا بالنهي عن مطلق العدد المفهم للمساواة بوجه ما ، فما ظنك بمن صرح بالشركة ، كما قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ( المائدة : 73 ) وقال سبحانه : وما من إله إلا إله واحد ( المائدة : 73 ) فأفهم أنه لو وجد الإله يكون غيره معه خطأ لإفهامه مساواة ما ، كقوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( الأنعام : 1 ) ولزم من نفي الثلاثة لامتناع المساواة المعلومة عقلا والمدلول عليها بقوله : إنما الله إله واحد ( النساء : 171 ) نفي الشركة مطلقا ; فإن تخصيص النهي وقع في مقابلة الفعل ودليلا عليه ، فإنهم كانوا يقولون في الله وعيسى وأمه ثلاثة . ونحوه في الخروج على السبب لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ( آل عمران : 130 ) .

وقال صاحب " إسفار الصباح " : " الوجه تقدير كون ثلاثة ، أو في الوجود " [ ص: 210 ] ثم حذف الخبر الذي هو " لنا " أو " في الوجود " الحذف المطرد ، وما دل عليه توحيد لا إله إلا الله .

ثم حذف المبتدأ حذف الموصوف كالعدد إذا كان معلوما .

كقولك : عندي ثلاثة .

أي : دراهم وقد علم بقرينة قوله تعالى : إنما الله إله واحد ( النساء : 171 ) .

وقد عورض هذا بأن نفي وجود ثلاثة لا ينفي وجود إلهين ، وأجيب بأن تقديره " آلهتنا ثلاثة " يوجب ثبوت الآلهة ، وتقدير " لنا آلهة " لا يوجب ثبوت إلهين .

فعورض بأنه كما لا يوجبه فلا ينفيه .

فأجيب بأنه إذا لم ينفه فقد نفاه ما بعده من قوله : إنما الله إله واحد ( النساء : 171 ) .

فعورض بأن ما بعده إن نفى ثبوت إلهين فكيف ثبوت آلهة .

فأجاب بأنه لا ينفيه ، ولكن يناقضه ، لأن تقدير " آلهتنا ثلاثة " يثبت وجود إلهين ، لانصراف النفي في الخبر عنه ، بخلاف تقدير " لنا آلهة ثلاثة " فإنه لا يثبت وجود إلهين ; لانصراف النفي إلى أصل الإثبات للآلهة .

وفي أجوبة هذه المقدمات نظر .

قلت : وذكر ابن جني أن الآية من حذف المضاف ; أي : ثالث ثلاثة ; لقوله في موضع آخر : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ( المائدة : 73 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية