الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 477 ] قوله - عز وجل -:

ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين

"حمولة"؛ عطف على جنات معروشات ؛ والتقدير: "وأنشأنا من الأنعام حمولة"؛ والحمولة: ما تحمل الأثقال من الإبل؛ والبقر؛ عند من عادته أن يحمل عليها؛ والهاء في "حمولة"؛ للمبالغة؛ وقال الطبري : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ والفرش: ما لا يحمل ثقلا؛ كالغنم؛ وصغار البقر والإبل؛ هذا هو المروي عن ابن مسعود ؛ وابن عباس ؛ والحسن ؛ وغيرهم؛ يقال له: "الفرش"؛ و"الفريش"؛ وذهب بعض الناس إلى أن تسميته "فرشا"؛ إنما هي لوطاءته؛ وأنه مما يمتهن ويتوطأ؛ ويتمكن من التصرف فيه؛ إذ قرب جسمه من الأرض.

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الحمولة: الإبل؛ والخيل؛ والبغال؛ والحمير؛ ذكره الطبري .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا منه تفسير لنفس اللفظة؛ لا من حيث هي في هذه الآية؛ ولا تدخل في الآية لغير الأنعام؛ وإنما خصت بالذكر من جهة ما شرعت فيها العرب.

وقوله تعالى مما رزقكم نص إباحة وإزالة ما سنه الكفار من البحيرة؛ والسائبة؛ وغير ذلك؛ ثم تابع النهي عن تلك السنن؛ بقوله - سبحانه -: ولا تتبعوا خطوات الشيطان ؛ وهي جمع "خطوة"؛ أي: "لا تمشوا في طرقه المضلة"؛ وقد تقدم في سورة "البقرة" اختلاف القراء في "خطوات"؛ ومن شاذها قراءة علي - رضي الله عنه والأعرج ؛ وعمرو [ ص: 478 ] بن عبيد: "خطؤات"؛ بضم الخاء؛ والطاء؛ وبالهمزة؛ قال أبو الفتح: وذلك جمع "خطأة"؛ من "الخطأ"؛ ومن الشاذ قراءة أبي السمال: "خطوات"؛ بالواو دون همزة؛ وهو جمع "خطوة"؛ وهي ذرع ما بين قدمي الماشية؛ ثم علل النهي عن ذلك بتقرير عداوة الشيطان لابن آدم.

وقوله تعالى "ثمانية"؛ اختلف في نصبها؛ فقال الأخفش؛ علي بن سليمان : بفعل مضمر؛ تقديره: "كلوا لحم ثمانية أزواج..."؛ فحذف الفعل؛ والمضاف؛ وأقيم المضاف إليه مقامه؛ وقيل نصب على البدل من "ما"؛ في قوله تعالى كلوا مما رزقكم الله ؛ وقيل: نصبت على الحال؛ وقيل: نصبت على البدل من قوله تعالى حمولة وفرشا ؛ وهذا أصوب الأقوال؛ وأجراها مع معنى الآية؛ وقال الكسائي : نصبها "أنشأ"؛ و"الزوج": الذكر؛ و"الزوج": الأنثى؛ كل واحد منهما زوج صاحبه؛ وهي أربعة أنواع؛ فتجيء ثمانية أزواج.

و"الضأن": جمع "ضائنة"؛ و"ضائن"؛ وقرأ طلحة بن مصرف ؛ وعيسى بن عمر ؛ والحسن : "من الضأن"؛ بفتح الهمزة؛ وقرأ نافع ؛ وعاصم ؛ وحمزة ؛ والكسائي : "ومن المعز"؛ بسكون العين؛ وهو جمع "ماعز"؛ و"ماعزة"؛ وقرأ ابن كثير ؛ وأبو عمرو ؛ وابن عامر : "ومن المعز"؛ بفتح العين؛ فـ "ضأن"؛ و"معز"؛ كـ "راكب"؛ و"ركب"؛ و"تاجر"؛ و"تجر"؛ و"ضأن"؛ و"معز"؛ كـ "خادم"؛ و"خدم"؛ ونحوه؛ وقرأ أبان بن عثمان : "من الضأن اثنان"؛ على الابتداء والخبر المقدم؛ ويقال في جمع "ماعز": "معز"؛ و"معز"؛ و"معيز"؛ و"معزى"؛ و"أمعوز".

وقوله تعالى قل آلذكرين ؛ هذا تقسيم على الكفار؛ حتى يتبين كذبهم على الله تعالى ؛ أي: "لا بد أن يكون حرم الذكرين؛ فيلزمكم تحريم جميع الذكور؛ أو الأنثيين؛ فيلزمكم تحريم جميع الإناث؛ أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؛ فيلزمكم تحريم الجميع؛ وأنتم لم تلتزموا شيئا مما يوجبه هذا التقسيم"؛ وفي هذه السؤالات تقرير وتوبيخ.

ثم أتبع تقريرهم؛ وتوبيخهم؛ بقوله تعالى "نبئوني"؛ أخبروني؛ "بعلم"؛ أي: من جهة نبوءة؛ أو كتاب من كتب الله تعالى ؛ إن كنتم صادقين ؛ و"إن"؛ شرط؛ وجوابه في [ ص: 479 ] "نبئوني"؛ وجاز تقديم جواب هذا الشرط؛ لما كانت "إن"؛ لا يظهر لها عمل في الماضي؛ ولو كانت ظاهرة العمل لما جاز تقدم الجواب.

التالي السابق


الخدمات العلمية