فصل القسم الثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28205يكون الطريق مشروعة ، وما يفضي إليه مشروع ، وهذه هي الأسباب التي نصبها الشارع مفضية إلى مسبباتها كالبيع والإجارة والمساقاة والمزارعة والوكالة ، بل الأسباب محل حكم الله ورسوله ، وهي في اقتضائها لمسبباتها شرعا على وزان الأسباب الحسية في اقتضائها لمسبباتها قدرا ; فهذا شرع الرب تعالى وذلك قدره ،
[ ص: 261 ] وهما خلقه وأمره ، والله له الخلق والأمر ، ولا تبديل لخلق الله ، ولا تغيير لحكمه ، فكما لا يخالف سبحانه بالأسباب القدرية أحكامها بل يجريها على أسبابها وما خلقت له ; فهكذا الأسباب الشرعية لا يخرجها عن سببها وما شرعت له ، بل هذه سنته شرعا وأمرا ، وتلك سنته قضاء وقدرا ، وسنته الأمرية قد تبدل وتتغير كما يعصى أمره ويخالف ، وأما سنته القدرية فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ، كما لا يعصى أمره الكوني القدري .
ويدخل في هذا القسم التحيل على جلب المنافع وعلى دفع المضار ، وقد ألهم الله تعالى ذلك لكل حيوان ; فلأنواع الحيوانات من أنواع الحيل والمكر ما لا يهتدي إليه بنو آدم .
وليس كلامنا ولا كلام السلف في ذم الحيل متناولا لهذا القسم . بل العاجز من عجز عنه ، والكيس من كان به أفطن وعليه أقدر ، ولا سيما في الحرب فإنها خدعة . والعجز كل العجز ترك هذه الحيلة . والإنسان مندوب إلى استعاذته بالله تعالى من العجز والكسل ; فالعجز عدم القدرة على الحيلة النافعة . والكسل عدم الإرادة لفعلها ; فالعاجز لا يستطيع الحيلة ، والكسلان لا يريدها . ومن لم يحتل وقد أمكنته هذه الحيلة أضاع فرصته وفرط في مصالحه ، كما قال :
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
.
وفي هذا قال بعض السلف : الأمر أمران : أمر فيه حيلة فلا يعجز عنه ، وأمر لا حيلة فيه فلا يجزع منه .
فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28205يَكُونَ الطَّرِيقُ مَشْرُوعَةً ، وَمَا يُفْضِي إلَيْهِ مَشْرُوعٌ ، وَهَذِهِ هِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي نَصَبَهَا الشَّارِعُ مُفْضِيَةً إلَى مُسَبَّبَاتِهَا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارِعَةِ وَالْوَكَالَةِ ، بَلْ الْأَسْبَابُ مَحَلُّ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَهِيَ فِي اقْتِضَائِهَا لِمُسَبَّبَاتِهَا شَرْعًا عَلَى وِزَانِ الْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ فِي اقْتِضَائِهَا لِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا ; فَهَذَا شَرْعُ الرَّبِّ تَعَالَى وَذَلِكَ قَدَرُهُ ،
[ ص: 261 ] وَهُمَا خَلْقُهُ وَأَمْرُهُ ، وَاَللَّهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، وَلَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ، وَلَا تَغْيِيرَ لِحُكْمِهِ ، فَكَمَا لَا يُخَالِفُ سُبْحَانَهُ بِالْأَسْبَابِ الْقَدَرِيَّةِ أَحْكَامَهَا بَلْ يُجْرِيهَا عَلَى أَسْبَابِهَا وَمَا خُلِقَتْ لَهُ ; فَهَكَذَا الْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ سَبَبِهَا وَمَا شُرِعَتْ لَهُ ، بَلْ هَذِهِ سُنَّتُهُ شَرْعًا وَأَمْرًا ، وَتِلْكَ سُنَّتُهُ قَضَاءً وَقَدَرًا ، وَسُنَّتُهُ الْأَمْرِيَّةُ قَدْ تُبَدَّلُ وَتَتَغَيَّرُ كَمَا يُعْصَى أَمْرُهُ وَيُخَالَفُ ، وَأَمَّا سُنَّتُهُ الْقَدَرِيَّةُ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ، كَمَا لَا يُعْصَى أَمْرُهُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ .
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ التَّحَيُّلُ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَعَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِكُلِّ حَيَوَانٍ ; فَلِأَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ وَالْمَكْرِ مَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ بَنُو آدَمَ .
وَلَيْسَ كَلَامُنَا وَلَا كَلَامُ السَّلَفِ فِي ذَمِّ الْحِيَلِ مُتَنَاوِلًا لِهَذَا الْقِسْمِ . بَلْ الْعَاجِزُ مَنْ عَجَزَ عَنْهُ ، وَالْكَيِّسُ مَنْ كَانَ بِهِ أَفْطَنَ وَعَلَيْهِ أَقْدَرَ ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرْبِ فَإِنَّهَا خَدْعَةٌ . وَالْعَجْزُ كُلُّ الْعَجْزِ تَرْكُ هَذِهِ الْحِيلَةِ . وَالْإِنْسَانُ مَنْدُوبٌ إلَى اسْتِعَاذَتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ; فَالْعَجْزُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحِيلَةِ النَّافِعَةِ . وَالْكَسَلُ عَدَمُ الْإِرَادَةِ لِفِعْلِهَا ; فَالْعَاجِزُ لَا يَسْتَطِيعُ الْحِيلَةَ ، وَالْكَسْلَانُ لَا يُرِيدُهَا . وَمَنْ لَمْ يَحْتَلْ وَقَدْ أَمْكَنَتْهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ أَضَاعَ فُرْصَتَهُ وَفَرَّطَ فِي مَصَالِحِهِ ، كَمَا قَالَ :
إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَحْتَلْ وَقَدْ جَدَّ جِدُّهُ أَضَاعَ وَقَاسَى أَمْرَهُ وَهُوَ مُدْبِرُ
.
وَفِي هَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْأَمْرُ أَمْرَانِ : أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا يُعْجَزُ عَنْهُ ، وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا يُجْزَعُ مِنْهُ .