الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم

[ ص: 480 ] هذا أمر من الله - عز وجل - بأن يشرع للناس جميعا؛ ويبين عن الله تعالى ما أوحي إليه؛ وهذه الآية نزلتبمكة؛ ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء؛ ثم نزلت سورة "المائدة" بالمدينة؛ وزيد في المحرمات؛ كالمنخنقة؛ والموقوذة؛ والمتردية؛ والنطيحة؛ فإن هذه - وإن كانت في حكم الميتة - فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات؛ لأنها بأسباب؛ وليست حتف الأنف؛ فلما بين النص إلحاقها بالميتة؛ كانت زيادة في المحرمات؛ ثم نزل النص على رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - في تحريم الخمر؛ بوحي غير معجز؛ وبتحريم كل ذي ناب من السباع؛ فهذه كلها زيادات في التحريم؛ ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر؛ وصالحة - بحسب اللغة - أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية؛ ونحوها؛ فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين؛ وأجمع عليه الكل منهم؛ ولم يضطرب فيه ألفاظ الأحاديث؛ وأمضاه الناس على أذلاله؛ وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر؛ والمنع؛ ولحق بالخنزير؛ والميتة؛ وهذه صفة تحريم الخمر؛ وما اقترنت به قرينة ألفاظ الحديث؛ واختلفت الأمة فيه؛ مع علمهم بالأحاديث؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام -: "كل ذي ناب من السباع حرام"؛ وقد روي نهي رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع؛ ثم اختلف الصحابة؛ ومن بعدهم؛ في تحريم ذلك؛ فجاز - لهذه الوجوه - لمن ينظر أن يجمل لفظ التحريم على المنع؛ الذي هو الكراهية؛ ونحوها؛ وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه - عليه الصلاة والسلام - لحوم [ ص: 481 ] الحمر الإنسية؛ فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنها نجس؛ وتأول بعضهم أن ذلك لئلا تفنى حمولة الناس؛ وتأول بعضهم التحريم المحض؛ وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها؛ فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم - بحسب اجتهاده وقياسه - على كراهية؛ أو نحوها.

وروي عن ابن عامر أنه قرأ: "فيما أوحى إلي"؛ بفتح الهمزة؛ والحاء؛ وقرأ جمهور الناس: "يطعمه"؛ وقرأ أبو جعفر؛ محمد بن علي : "يطعمه"؛ بتشديد الطاء؛ وكسر العين؛ وقرأ محمد بن الحنفية ؛ وعائشة - رضي الله عنها -؛ وأصحاب عبد الله : "طعمه"؛ بفعل ماض؛ وقرأ نافع ؛ والكسائي ؛ وأبو عمرو ؛ وعاصم : "إلا أن يكون"؛ بالياء؛ على تقدير: "إلا أن يكون المطعوم..."؛ وقرأ ابن كثير ؛ وحمزة ؛ وأبو عمرو أيضا: "إلا أن تكون"؛ بالتاء؛ من فوق؛ "ميتة"؛ على تقدير: "إلا أن تكون المطعومة..."؛ وقرأ ابن عامر وحده - وذكرها مكي عن أبي جعفر -: "إلا أن تكون"؛ بالتاء؛ "ميتة"؛ بالرفع؛ على أن تجعل "تكون"؛ بمعنى "تقع"؛ ويحتاج - على هذه القراءة أن يعطف "دما"؛ على موضع "أن تكون"؛ لأنها في موضع نصب بالاستثناء؛ و"المسفوح": الجاري؛ الذي يسيل؛ وجعل الله - سبحانه وتعالى - هذا فارقا بين القليل؛ والكثير؛ و"المسفوح": السائل من الدم؛ ونحوه؛ ومنه قول الشاعر - وهو طرفة -:


إذا ما عاده منا نساء ... سفحن الدمع من بعد الرنين



وقول امرئ القيس:


وإن شفائي عبرة إن سفحتها ...     وهل عند رسم دارس من معول



فالدم المختلط باللحم؛ والدم الخارج من مرق اللحم؛ وما شاكل هذا؛ حلال؛ والدم غير المسفوح هو هذا؛ وهو معفو عنه؛ وقيل لأبي مجلز - في القدر تعلوها الحمرة من الدم - قال: إنما حرم الله المسفوح؛ وقالت نحوه عائشة - رضي الله عنها - وغيرها؛ وعليه إجماع العلماء؛ وقيل: الدم حرام؛ لأنه إذا زايل فقد انسفح.

[ ص: 482 ] و"الرجس": النتن؛ والحرام؛ يوصف بذلك الأجرام؛ والمعاني؛ كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "دعوها فإنها منتنة"؛ الحديث؛ فكذلك قيل في الأزلام: "رجس"؛ و"الرجس"؛ أيضا: العذاب؛ لغة بمعنى "الرجز"؛ وقوله تعالى "أو فسقا"؛ يريد ذبائحهم التي يختصون بها أصنامهم.

وقوله تعالى فمن اضطر ؛ الآية؛ أباح الله تعالى فيها - مع الضرورة - ركوب المحظور؛ دون بغي؛ واختلف الناس: فيم ذا؟ فقالت فرقة: دون أن يبغي الإنسان في أكله؛ فيأكل فوق ما يقيم رمقه؛ وينتهي إلى حد الشبع؛ وفوقه؛ وقالت فرقة: بل دون أن يبغي في أن يكون سفره في قطع طريق؛ أو قتل نفس؛ أو يكون تصرفه في معصية؛ فإن ذلك لا رخصة له؛ وأما من لم يكن بهذه الأحوال فاضطر؛ فله أن يشبع؛ ويتزود؛ وهذا مشهور قول مالك بن أنس - رحمه الله -؛ وقال بالأول؛ الذي هو الاقتصار على سد الرمق؛ عبد الملك بن حبيب - رحمه الله تعالى .

وقوله تعالى فإن ربك غفور رحيم إباحة تعطيها قوة اللفظ.

التالي السابق


الخدمات العلمية