الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2742 [ ص: 607 ] 77 - باب: لا يقول : فلان شهيد

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الله أعلم بمن يجاهد في سبيله ، الله أعلم بمن يكلم في سبيله " .

                                                                                                                                                                                                                              2898 - حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا ، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ، ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه ، فقال : ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما إنه من أهل النار " . فقال رجل من القوم أنا صاحبه . قال : فخرج معه كلما وقف وقف معه ، وإذا أسرع أسرع معه قال : فجرح الرجل جرحا شديدا ، فاستعجل الموت ، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل على سيفه ، فقتل نفسه ، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أنك رسول الله . قال : "وما ذاك ؟ " . قال : الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار ، فأعظم الناس ذلك . فقلت : أنا لكم به . فخرجت في طلبه ، ثم جرح جرحا شديدا ، فاستعجل الموت ، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه ، فقتل نفسه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك : "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة " . [4202 ، 4207 ،6493 ، 6607 - مسلم: 112 - فتح: 6 \ 89]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا ، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ، ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي القوم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه ، فقال : ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما إنه من أهل النار . . " فأتبعه رجل إلى أن ذكر

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 608 ] أنه جرح نفسه ; فقتل نفسه . . الحديث ، وفي آخره : "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              التعليق الأول سلف قريبا مسندا .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث سهل يأتي في غزوة خيبر أيضا ، وقال ابن الجوزي : كان يوم أحد ، (قال ) : واسم الرجل قزمان وهو معدود في المنافقين ، وكان تخلف يوم أحد فعيره النساء ، وقلن له : ما أنت إلا امرأة فخرج ، فكان أول من رمى بسهم ، ثم كسر جفن سيفه ونادى : يا للأوس قاتلوا على الأحساب ، فلما جرح مر به قتادة بن النعمان فقال له : هنيئا لك الشهادة ، فقال : إني والله ما قاتلت على دين ما قاتلت إلا على الحناط ثم قتل نفسه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .

                                                                                                                                                                                                                              واعترض المحب الطبري فقال : كذا زعم ابن الجوزي أن اسمه قزمان ، وأنه - عليه السلام - قال : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " ، وذكر أنها كانت بأحد ، ويؤيده سياق ابن إسحاق في "سيرته " ، لعل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 609 ] ابن الجوزي وهم في تسميته ذلك بقزمان لتشابه اللفظ .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وفي رواية : كان ذلك بخيبر ، وفي أخرى : بحنين . إذا تقرر ذلك ; فالكلام عليه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : اعترض المهلب فقال : في الحديث ضد ما ترجم به البخاري أنه لا يقال : فلان شهيد ، ثم أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشهادة شيء ، وإنما فيه ضدها ، والمعنى الذي ترجم به قولهم : (ما أجزأ منا اليوم أحد ، ما أجزأ فلان ) ، فمدحوا جزاءه وغناءه ، ففهم منهم (أنهم ) قضوا له بالجنة في نفوسهم بغنائه ذلك ، فأوحى الله إليه بغيب مآل أمره لئلا يشهدوا لحي شهادة قاطعة عند الله ولا لميت كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عثمان بن مظعون : "والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به " ، وكذلك لا يعلم شيئا من الوحي حتى يوحى إليه به ، ويعرف بغيبه فقال : "إنه في النار " بوحي من الله له .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : الشاذة والفاذة : بذالين معجمتين ، والشين في الأولى معجمة : ما شذت عن صواحبها ، وكذا الفاذة التي انفردت ، وصفه بأنه لا يبقى شيء إلا أتى عليه ، وأنثها على وجه المبالغة كما قالوا : علامة ونسابة . وعن ابن الأعرابي : فلان لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إذا كان شجاعا لا يلقاه أحد ، وقيل : أنث الشاذة ; لأنها بمعنى النسمة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : الشاذة : هي التي كانت في القوم ثم شذت منهم ، والفاذة : من لم تختلط معهم أصلا ، وقال الداودي : يعني هما ما صغر وكبر ويركب كل صعب وذلول .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 610 ] و (أجزأ ) مهموز ، أي : ما أغنى منا ولا كفى . قال القرطبي : كذا صحت روايتنا فيه رباعيا . وفي "الصحاح " أجزأني الشيء : كفاني ، وجزأ عني هذا الأمر ، أي : قضى .

                                                                                                                                                                                                                              و (ذباب السيف ) طرفه كما قاله القزاز ، (وحده ) كما قاله ابن فارس .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (بين ثدييه ) قال ابن فارس : الثدي للمرأة ، والجمع الثدى ، ويذكر ويؤنث ، وثندؤة الرجل كثدي المرأة ، وهو مهموز إذا ضم أوله ، فإذا فتحت لم يهمز ، ويقال : هو طرف الثدي .

                                                                                                                                                                                                                              ووصفه الرجل بأنه من أهل النار يحتمل أمورا :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : لنفاقه في الباطن ويؤيده ما أسلفناه .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : أنه لم (يكن ليقاتل ) لتكون كلمة الله هي العليا .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : أنه ارتاب عند الجزع فمات على شك .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : أنه لم يبلغ به الجراح إلى أن أنفذت مقاتله ليكون كمن استسرع الموت ، وكمن احترق مركب وهو فيه فرمى بنفسه إلى البحر وإن كان ربيعة يكره ذلك ، قال ابن التين : وذكره أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة يدل أنه لم يكن منافقا ولا قاتل لغير الله ، وإنما ذلك لقتله نفسه .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : فيه صدق الخبر عما يكون وخروجه على ما أخبر به المخبر زيادة في زكاته ، وهو من الشارع من علامات النبوة ، وزيادة في يقين

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 611 ] المؤمنين به ، ألا ترى قول الرجل حين رأى قتله لنفسه : أشهد أنك رسول الله ، وهو قد كان شهد قبل ذلك ، وقد قال ذلك الصديق في غير ما قصة ، حين كان يرى صدق ما أخبر به ، كان يقول : أشهد أنك رسول الله .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : جواز الإغياء في الوصف لقوله : (ما أجزأ منا اليوم أحد مثل ما أجزأ ) ، ولا شك أن في الصحابة من كان فوقه ، وأنه قد ترك شاذات وفاذات لم يدركها ، وإنما خرج كلامه على الإغياء والمبالغة ، وهو جائز عند العرب .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (إلا اتبعها بسيفه ) معناه : يضرب الشيء المتبوع ; لأن المؤنث قد يجوز تذكيره على معنى أنه شيء وأنشد الفراء (للأعرابية ) :

                                                                                                                                                                                                                              تركتني في الحي ذا غربة



                                                                                                                                                                                                                              تريد ذات (غربة ) ، لكنها ذكرت على تقدير تركتني في الحي (إنسانا ) ذا غربة أو شخصا ذا غربة ، قال القرطبي في حديث أبي هريرة : "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار فيدخلها " وهو غير حديث سهل ، لأن ذاك لم يكن مخلصا ، وهنا يتأول -على بعد - على من كان مخلصا في أعماله قائما على شروطها ، لكن سبقت عليه سابقة القدر الذي لا محيص عنه فبدل به عند خاتمته .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية