الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) الذين يحتمل أن يكون بدلا عن الذين أحسنوا وهو الظاهر ، وكأنه تعالى قال : ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أحسنوا ، ويتبين به أن المحسن ليس ينفع الله بإحسانه شيئا ، وهو الذي لا يسيء ولا يرتكب القبيح الذي هو سيئة في نفسه عند ربه ، فالذين أحسنوا هم الذين اجتنبوا ولهم الحسنى ، وبهذا يتبين المسيء والمحسن ؛ لأن من لا يجتنب كبائر الإثم يكون مسيئا والذي يجتنبها يكون محسنا ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهو أن المحسن لما كان هو من يجتنب الآثام فالذي يأتي بالنوافل يكون فوق المحسن ، لكن الله تعالى وعد المحسن بالزيادة ، فالذي فوقه يكون له زيادات فوقها وهم الذين لهم جزاء الضعف ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام تقديره الذين يجتنبون كبائر الإثم يغفر الله لهم ، والذي يدل عليه قوله تعالى : ( إن ربك واسع المغفرة ) [ النجم : 32 ] وعلى هذا تكون هذه الآية مع ما قبلها مبينة لحال المسيء والمحسن وحال من لم يحسن ولم يسئ وهم الذين لم يرتكبوا سيئة وإن لم تصدر منهم الحسنات ، وهم كالصبيان الذين لم يوجد فيهم شرائط التكليف ولهم الغفران وهو دون الحسنى ، ويظهر هذا بقوله تعالى بعده : ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة ) [ النجم : 32 ] أي يعلم الحالة التي لا إحسان فيها ولا إساءة ، كما علم من أساء وضل ومن أحسن واهتدى ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : إذا كان بدلا عن الذين أحسنوا فلم خالف ما بعده بالمضي والاستقبال حيث قال تعالى : ( الذين أحسنوا ) وقال : ( الذين يجتنبون ) ولم يقل اجتنبوا ؟ نقول : هو كما يقول القائل الذين سألوني أعطيتهم ، الذين يترددون إلي سائلين أي الذين عادتهم التردد والسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك هاهنا قال : ( الذين يجتنبون ) أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة وقدموا عليها أخرى ، فإن قيل : في كثير من المواضع قال في الكبائر : ( والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) [ الشورى : 37 ] وقال في عباد الطاغوت : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله ) [ الزمر : 17 ] فما الفرق ؟ نقول : عبادة الطاغوت راجعة إلى الاعتقاد والاعتقاد إذا وجد دام ظاهرا فمن اجتنبها اعتقد بطلانها فيستمر ، وأما مثل الشرب والزنا أمر يختلف أحوال الناس فيه فيتركه زمانا ويعود إليه ؛ ولهذا يستبرأ الفاسق إذا تاب ولا يستبرأ الكافر إذا أسلم ، فقال في الآثام : ( الذين يجتنبون ) دائما ، ويثابرون على الترك أبدا ، وفي عبادة الأصنام : ( اجتنبوا ) بصيغة الماضي ليكون أدل على الحصول ؛ ولأن كبائر الإثم لها عدد أنواع فينبغي أن يجتنب عن نوع ويجتنب عن آخر ويجتنب عن ثالث ، ففيه تكرر وتجدد فاستعمل فيه صيغة الاستقبال ، وعبادة الصنم أمر واحد متحد ، فترك فيه ذلك الاستعمال وأتى بصيغة الماضي الدالة على وقوع الاجتناب لها دفعة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الكبائر جمع كبيرة وهي صفة فما الموصوف ؟ نقول : هي صفة الفعلة كأنه يقول : الفعلات الكبائر من الإثم ، فإن قيل : فما بال اختصاص الكبيرة بالذنوب في الاستعمال ، ولو قال قائل : الفعلة الكبيرة الحسنة لا يمنعه مانع ؟ نقول : الحسنة لا تكون كبيرة ؛ لأنها إذا قوبلت بما يجب أن يوجد من العبد في [ ص: 8 ] مقابلة نعم الله تعالى تكون في غاية الصغر ، ولولا أن الله يقبلها لكانت هباء لكن السيئة من العبد الذي أنعم الله عليه بأنواع النعم كبيرة ، ولولا فضل الله لكان الاشتغال بالأكل والشرب والإعراض عن عبادته سيئة ، ولكن الله غفر بعض السيئات وخفف بعضها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : إذا ذكر الكبائر فما الفواحش بعدها ؟ نقول : الكبائر إشارة إلى ما فيها من مقدار السيئة ، والفواحش إشارة إلى ما فيها من وصف القبح كأنه قال : عظيمة المقادير قبيحة الصور ، والفاحش في اللغة مختص بالقبيح الخارج قبحه عن حد الخفاء ، وتركيب الحروف في التقاليب يدل عليه ، فإنك إذا قلبتها وقلت : حشف كان فيه معنى الرداءة الخارجة عن الحد ، ويقال : فحشت الناقة إذا وقفت على هيئة مخصوصة للبول ، فالفحش يلازمه القبح ، ولهذا لم يقل : الفواحش من الإثم وقال في الكبائر : ( كبائر الإثم ) لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة إلى الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : كثرت الأقاويل في الكبائر والفواحش ، فقيل : الكبائر ما أوعد الله عليه بالنار صريحا وظاهرا ، والفواحش ما أوجب عليه حدا في الدنيا ، وقيل : الكبائر ما يكفر مستحله ، وقيل : الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة ، وهو على مذهب المعتزلة ، وكل هذه التعريفات تعريف الشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه ، وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم ، والفواحش هي التي قبحها واضح ، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار ، والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية ، كما يقال مثلا : في الأبرص علته بياض لطخة كبيرة ظاهرة اللون ، فالكبيرة لبيان الكمية والظهور لبيان الكيفية .

                                                                                                                                                                                                                                            وعلى هذا فنقول على ما قلنا : إن الأصل في كل معصية أن تكون كبيرة ؛ لأن نعم الله كثيرة ومخالفة المنعم سيئة عظيمة ، غير أن الله تعالى حط عن عباده الخطأ والنسيان ؛ لأنهما لا يدلان على ترك التعظيم ، إما لعمومه في العباد أو لكثرة وجوده منهم كالكذبة والغيبة مرة أو مرتين والنظرة والقبائح التي فيها شبهة ، فإن المجتنب عنها قليل في جميع الأعصار ؛ ولهذا قال أصحابنا : إن استماع الغناء الذي مع الأوتار يفسق به ، وإن استمعه من أهل بلدة لا يعتقدون أمر ذلك لا يفسق فعادت الصغيرة إلى ما ذكرنا من أن العقلاء إن لم يعدوه تاركا للتعظيم لا يكون مرتكبا للكبيرة ، وعلى هذا تختلف الأمور باختلاف الأوقات والأشخاص ، فالعالم المتقي إذا كان يتبع النساء أو يكثر من اللعب يكون مرتكبا للكبيرة ، والدلال والباعة والمتفرغ الذي لا شغل له لا يكون كذلك ، وكذلك اللعب وقت الصلاة ، واللعب في غير ذلك الوقت ، وعلى هذا كل ذنب كبيرة إلا ما علم المكلف أو ظن خروجه بفضل الله وعفوه عن الكبائر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : في اللمم وفيه أقوال : أحدها : ما يقصده المؤمن ولا يحققه وهو على هذا القول من لم يلم إذا جمع فكأنه جمع عزمه وأجمع عليه . وثانيها : ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال وهو من اللمم الذي هو مس من الجنون كأنه مسه وفارقه ويؤيد هذا قوله تعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) . ثالثها : اللمم الصغير من الذنب من ألم إذا نزل نزولا من غير لبث طويل ، ويقال : ألم بالطعام إذا قلل من أكله ، وعلى هذا فقوله : ( إلا اللمم ) يحتمل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يكون ذلك استثناء من الفواحش وحينئذ فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : استثناء منقطع ؛ لأن اللمم ليس من الفواحش .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : غير منقطع لما بينا أن كل معصية إذا نظرت إلى جانب الله تعالى وما يجب أن يكون عليه فهي كبيرة وفاحشة ، ولهذا قال الله تعالى : ( وإذا فعلوا فاحشة ) [ الأعراف : 28 ] غير أن الله تعالى استثنى منها أمورا يقال : الفواحش كل معصية [ ص: 9 ] إلا ما استثناه الله تعالى منها ووعدنا بالعفو عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : ( إلا ) بمعنى " غير " وتقديره " والفواحش غير اللمم " ، وهذا للوصف إن كان للتمييز كما يقال : الرجال غير أولي الإربة فاللمم عين الفاحشة ، وإن كان لغيره كما يقال : الرجال غير النساء جاءوني لتأكيد وبيان " فلا " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : هو استثناء من الفعل الذي يدل عليه قوله : ( الذين يجتنبون ) لأن ذلك يدل على أنهم لا يقربونه فكأنه قال : لا يقربونه إلا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية