الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فكيف كان عذابي ونذر )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فكيف كان عذابي ونذر ) وفيه وجهان .

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون ذلك استفهاما من النبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له ووعدا بالعاقبة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أن يكون عاما تنبيها للخلق و" نذر " أسقط منه ياء الإضافة كما حذف ياء يسر في قوله تعالى : ( والليل إذا يسري ) [ الفجر : 4 ] وذلك عند الوقف ومثله كثير كما في قوله تعالى : ( فإياي فاعبدون ) [ العنكبوت : 56 ] ( ولا هم ينقذون ) [ يس : 43 ] [ الزمر : 16 ] وقوله تعالى : ( ياعباد فاتقون ) [ الزمر : 16 ] وقوله تعالى : ( ولا تكفرون ) [ البقرة : 152 ] وقرئ بإثبات الياء : " عذابي ونذري " وفيه مسائل : [ ص: 38 ]

                                                                                                                                                                                                                                            الأولى : ما الذي اقتضى الفاء في قوله تعالى : ( فكيف كان ) ؟ نقول : أما إن قلنا إن الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه تعالى قال له : قد علمت أخبار من كان قبلك فكيف كان أي : بعدما أحاط بهم علمك بنقلها إليك ، وأما إن قلنا : الاستفهام عام فنقول : لما قال : ( فهل من مدكر ) [ القمر : 15 ] فرض وجودهم وقال : يا من يتذكر ، وعلم الحال بالتذكير : ( فكيف كان عذابي ) ويحتمل أن يقال : هو متصل بقوله : ( فهل من مدكر ) تقديره كيف كان عذابي .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ما رأوا العذاب ولا النذر فكيف استفهم منهم ؟ نقول : أما على قولنا الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم لما علم ، وأما على قولنا عام فهو على تقدير الادكار وعلى تقدير الادكار يعلم الحال ، ويحتمل أن يقال : إنه ليس باستفهام وإنما هو إخبار عن عظمة الأمر كما في قوله تعالى : ( الحاقة ما الحاقة ) [ الحاقة : 1 ، 2 ] و ( القارعة ما القارعة ) [ القارعة : 1 ، 2 ] وهذا لأن الاستفهام يذكر للإخبار كما أن صيغة " هل " تذكر للاستفهام ، فيقال : زيد في الدار ؟ بمعنى هل زيد في الدار ، ويقول المنجز وعده هل صدقت ؟ فكأنه تعالى قال : عذابي وقع وكيف كان أي كان عظيما وحينئذ لا يحتاج إلى علم من يستفهم منه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال تعالى من قبل : ( ففتحنا ) [ القمر : 11 ] ، ( وفجرنا ) [ القمر : 12 ] ، و ( بأعيننا ) [القمر : 14 ] ولم يقل : كيف كان عذابنا نقول : لوجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : لفظي وهو أن ياء المتكلم يمكن حذفها ؛ لأنها في اللفظ تسقط كثيرا فيما إذا التقى ساكنان ، تقول : غلامي الذي ، وداري التي ، وهنا حذفت لتواخي آخر الآيات ، وأما النون والألف في ضمير الجمع فلا تحذف .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : وهو المعنوي فنقول : إن كان الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم فتوحيد الضمير للأنباء ، وفي فتحنا وفجرنا لترهيب العصاة ، ونقول : قد ذكرنا أن قوله : ( مدكر ) فيه إشارة إلى قوله : ( ألست بربكم ) فلما وحد الضمير بقوله : ( ألست بربكم ) قال فكيف كان .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : النذر جمع نذير فهل هو مصدر كالنسيب والنحيب أو فاعل كالكبير والصغير ؟ نقول : أكثر المفسرين على أنه مصدر هاهنا ، أي : كيف كان عاقبة عذابي وعاقبة إنذاري ، والظاهر أن المراد الأنباء ، أي : كيف كان عاقبة أعداء الله ورسله ؟ هل أصاب العذاب من كذب الرسل أم لا ؟ فإذا علمت الحال يا محمد فاصبر فإن عاقبة أمرك كعاقبة أولئك النذر ، ولم يجمع العذاب ؛ لأنه مصدر ولو جمع لكان في جمعه تقدير وفرض ولا حاجة إليه ، فإن قيل : قوله تعالى : ( كذبت ثمود بالنذر ) [ القمر : 23 ] أي بالإنذارات ؛ لأن الإنذارات جاءتهم ، وأما الرسل فقد جاءهم واحد ، نقول : كل من تقدم من الأمم الذين أشركوا بالله وكذبوا بالرسل وقالوا : ما أنزل الله من شيء ، وكان المشركون مكذبين بالكل ما خلا إبراهيم عليه السلام ، فكانوا يعتقدون فيه الخير ؛ لكونه شيخ المرسلين فلا يقال : ( كذبت ثمود بالنذر ) أي بالأنبياء بأسرهم ، كما أنكم أيها المشركون تكذبون بهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية