الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 113 ] علامة محبة الله ورسوله

وأمارة هذه المحبة : التشمير عن ساق الجد لاتباع الكتاب والسنة ، والبعد الكلي عن سلوك سبل البدعة ، أي بدعة كانت ، وجاءت من أي إنسان ، في أي زمان ومكان; لأن البدعة تنافي المحبة .

كيف والمحب لا يؤثر غير المحبوب ، ومن آثره ، فقد افترى ، وخرج عن صدق الدعوى؟ .

وعن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعا : «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا» ، واستسلم لقضائه وعبوديته ، وبالإسلام دينا ، وعمل بما فيه محتسبا مخلصا لله الدين «وبمحمد» صلى الله عليه وسلم «رسولا» ، وسلك طريق اتباعه . رواه مسلم .

قال في الترجمة : الإشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى تذوق وتتنعم بلذائذ المعاني ، كما تتنعم النفوس بلذائذ الأطعمة .

وسلامة القلب وعافيته عن هذه الأمراض ، إنما تكون بهذه الأشياء الثلاثة ، ومن ليس كذلك ، فليس بواجد لحلاوة الإيمان ، ولا ذائق للذة الإسلام ، بل تنعكس له القضية ، ويتنفر من ذلك ، كما أن المريض يجد السكر مرا . انتهى .

اللهم إني رضيت بك ربا غفورا ، وبالإسلام ملة حنيفية سمحة سهلة بيضاء ، ليلها كنهارها ، وبرسولك خاتم الرسل وسيد الكل نبيا مرسلا ، هاديا ، مهديا ، شفيعا .

وعن أنس - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من صلى صلاتنا» التي في الإسلام ، المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، «واستقبل قبلتنا» التي هي كعبة الإسلام ، وبيت الله الحرام ، الواقعة في مكة المباركة ، «وأكل ذبيحتنا» التي هي [ ص: 114 ] على الصفة المسنونة ، والهيئة المأثورة ، «فذلك المسلم الذي له ذمة الله» ; أي : عهده ، وأمانه ، وضمانه ، وحرمته ، وحقه .

والمعاني متقاربة ، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا تخفروا الله في ذمته» ; أي : لا تنقضوا عهده سبحانه .

والإخفار بمعنى : الغدر ، ونقض العهد . رواه البخاري .

قال في «المرقاة» : أي : لا تخونوا الله في عهده ، ولا تتعرضوا في حقه من ماله ودمه وعرضه . انتهى .

وقال في «الترجمة» : اكتفى بذكر هذه الثلاثة ، ولم يذكر أركان الإسلام من الشهادتين وغيرهما; لأن هذه الثلاثة هي الأمارات الصحيحة الدالة على تمييز المسلم; لأن صلاة الرجل تدل على اعترافه بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبوله لما جاء به من عند الله .

وأفرد ذكر القبلة ، مع كونها داخلة في الصلاة; لأن أمرها مشهور ، وهي مخصوصة بصلاتنا ، بخلاف القيام ، والقراءة ، والركوع; فإنه يفعلها أهل الكتاب أيضا .

وأكل ذبيحة المسلمين أيضا خاص بأهل الإسلام ، واليهود لا يأكلون ذبيحتنا . انتهى .

قلت : إضافة الصلاة ، والقبلة ، والذبيحة إلى ضمير جمع المتكلم ، تدل دلالة واضحة ، على أن المراد به : من هو على طريقة السنة ، لا كل من صلى ، وأكل ذبائحنا .

فإن أهل الشرك والبدعة من دين الإسلام أيضا ، يصلون ، ويستقبلون ، ويأكلون الذبائح ، وهم عن الإسلام مارقون ، وللسنن الصحيحة وآيات الكتاب تاركون .

فلا يدخل في مدلول هذا الحديث إلا أهل الاتباع ، الذين ليست فيهم بدعة موجبة للكفر ، ولا شرك مخرج عن الدين ، وهم سالكون مسالك القرآن [ ص: 115 ] والحديث ، ولا يبالون بما هو خلاف ذلك ، ولا يقلدون أحدا غير من رضوا به رسولا ، واتخذوه دينا . وبالله التوفيق .

وعن أبي أمامة - رضي الله عنه- ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان» رواه أبو داود ، ورواه الترمذي عن معاذ بن أنس ، مع تقديم وتأخير .

وفيه : أن أعماله كلها لله ، وكل ما يفعل يطلب به رضاء الحق ، ويريد به وجه الله .

فهذا هو الإيمان الكامل; لكون بنائه على الإخلاص التام لله - عز وجل - . وذلك مقام الصديقين ، رزقنا الله .

ولهذا ورد في حديث آخر عن أبي ذر مرفوعا : «أفضل الأعمال : الحب في الله ، والبغض في الله» رواه أبو داود .

قال في الترجمة : معنى هذا الحديث : معنى حديث أبي أمامة ، وصار هذا العمل أفضل الأعمال; لما أن مبنى جميع الخيرات والباعث عليها ، هو حب الله سبحانه .

فإذا غلبت محبة الله عليه; بحيث لم يذر شيئا ولا شخصا محبوبا إليه إلا الله ، ولا مبغوضا عنده إلا له سبحانه ، فلا بد أن يكون هذا باعثا على امتثال جميع أوامره ، والانتهاء عن جميع نواهيه .

ومثل هذا الحديث من جوامع الكلم التي جمعت جميع مراتب الإسلام والإيمان والإحسان ، وتضمنت تمام أحكام الشريعة ، وآداب الطريقة وأسرار الحقيقة .

قال الغزالي : إن أحب أحد طباخا على أنه يطبخ طعاما طيبا ، ويؤكله الفقراء والصلحاء ، فهذا الحب هو لله ، وفي الله . وإن أحب أستاذه; لأنه يعلم ، وهو يجعله وسيلة لاكتساب الدنيا ، فليس هذا الحب لله وفيه . انتهى .

[ ص: 116 ] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» .

قال في الترجمة : يعني : أن المسلم الكامل ، من كان لا يسب المسلمين باللسان ، ولا يغتابهم به ، ولا يقبحهم ، ولا يضربهم بيده ، ولا يؤذيهم ، ولا يغضب .

وخص «اللسان» و «اليد» بالذكر; لأن الإيذاء أكثر أنواعه يصدر من هذين العضوين واللسان ترجمان ما في نفس الإنسان ، وغالب الأفعال : تأتي باليد .

وقدم اللسان على اليد; لكون الإيذاء غالبا منه في الأحياء الحاضرين ، والأموات الماضين ، وفيمن يأتي من المسلمين . وإيذاء اليد خاص بالحاضرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية