الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 245 ] ( باب ما يدعيه الرجلان ) قال ( وإذا ادعى اثنان عينا في يد آخر كل واحد منهما يزعم أنها له وأقاما البينة بها بينهما ) وقال الشافعي في قول : تهاترتا ، وفي قول يقرع بينهما ; لأن إحدى البينتين كاذبة بيقين لاستحالة اجتماع الملكين في الكل في حالة واحدة وقد تعذر التمييز فيتهاتران أو يصار إلى القرعة { لأن النبي عليه الصلاة والسلام أقرع فيه وقال : اللهم أنت الحكم بينهما } ولنا حديث تميم بن طرفة [ ص: 246 ] { أن رجلين اختصما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام في ناقة وأقام كل واحد منهما البينة فقضى بها بينهما نصفين } .

وحديث القرعة كان في الابتداء ثم نسخ ، ولأن المطلق للشهادة في حق كل واحد منهما محتمل الوجود بأن يعتمد أحدهما سبب الملك والآخر اليد فصحت الشهادتان فيجب العمل بهما ما أمكن ، وقد أمكن بالتنصيف إذ المحل يقبله ، وإنما ينصف لاستوائهما في سبب الاستحقاق .

[ ص: 245 ]

التالي السابق


[ ص: 245 ] باب ما يدعيه الرجلان ) لما ذكر حكم دعوى الواحد شرع في ذكر حكم دعوى الاثنين بعد الواحد ( قال ) أي القدوري في مختصره ( وإذا ادعى اثنان عينا في يد آخر كل واحد منهما يزعم أنها ) أي العين ( له وأقاما البينة ) أي على ما ادعاه ( قضى بها بينهما ) أي نصفين ، وإنما وضع المسألة في دعوى ملك العين لأنهما لو تنازعا في نكاح امرأة وأقام كل واحد منهما بينة على أنها امرأته لم يقض لواحد منهما بالاتفاق وفي دعوى الخارجين ; لأن الدعوى لو كانت بين الخارج وصاحب اليد وأقاما بينة فبينة الخارج أولى عندنا .

وفي أحد قولي الشافعي : تهاترت البينتان ويكون المدعى لذي اليد تركا في يده وهو قضاء ترك لا قضاء ملك . وفي القول الآخر ترجح بينة ذي اليد فيقضى به لذي اليد قضاء ملك وفي الملك المطلق ; لأن في المقيد بالسبب المعين أو بالتاريخ تفصيلا وخلافا كما سيجيء إن شاء الله تعالى ( وقال الشافعي ) أي في المسألة التي نحن فيها ( في قول تهاترتا ) أي البينتان : أي تساقطتا وبطلتا ، مأخوذ من الهتر بكسر الهاء وهو السقط من الكلام والخطإ فيه ، كذا في المغرب ( وفي قول يقرع بينهما ) أي بين المدعيين ويقضي لمن خرجت قرعته ( لأن إحدى البينتين كاذبة بيقين لاستحالة اجتماع الملكين في الكل ) أي في كل العين ( في حالة واحدة وقد تعذر التمييز ) أي بين الصادقة منها والكاذبة فيمتنع العمل بهما ( فيتهاتران ) كما لو شهد شاهدان أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة ، وآخران أنه أعتق عبده بالكوفة في ذلك اليوم ، وهذا لأن تهمة الكذب تمنع العمل بالشهادة فالتيقن به أولى ، كذا في النهاية والكفاية ( أو يصار إلى القرعة { لأنه عليه الصلاة والسلام أقرع فيه وقال : اللهم أنت الحكم بينهما } ) روى سعيد بن المسيب { أن رجلين تنازعا في أمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاما البينة فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : اللهم أنت تقضي بين عبادك بالحق ، ثم قضى بها لمن خرجت قرعته } ( ولنا حديث تميم بن طرفة ) الطائي رواية عن أبي موسى الأشعري [ ص: 246 ] رضي الله تعالى عنه .

ذكره أبو داود ( { أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقة وأقام كل واحد منهما بينة فقضى بها بينهما نصفين } )

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه { أن رجلين اختصما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وأقاما البينة ، فقال : ما أحوجكما إلى سلسلة كسلسلة بني إسرائيل ، كان داود عليه السلام إذا جلس لفصل القضاء نزلت سلسلة من السماء بعتق الظالم ، ثم قضى به رسولنا صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين } ( وحديث القرعة كان في الابتداء ثم نسخ ) هذا جواب عن حديث القرعة : يعني أنه كان في ابتداء الإسلام وقت إباحة القمار ثم نسخ بحرمة القمار لأن تعيين المستحق بمنزلة الاستحقاق ابتداء : فكما أن تعليق الاستحقاق بخروج قرعة قمار فكذلك تعيين المستحق ، بخلاف قسمة المال المشترك لأن للقاضي هناك ولاية التعيين من غير قرعة ، وإنما يقرع تطييبا للقلوب ، ونفيا لتهمة الميل عن نفسه فلا يكون ذلك في معنى القمار ، كذا في الكافي وسائر الشروح ( ولأن المطلق ) بكسر اللام أي المجوز ( للشهادة في حق كل واحد منهما محتمل الوجود ) بفتح الميم ( بأن يعتمد أحدهما سبب الملك ) كالشراء ( والآخر اليد فصحت الشهادتان ) قال صاحب العناية في حل هذا المقام : ولا نسلم كذب إحداهما بيقين لأن المطلق للشهادة في حق كل واحد منهما محتمل الوجود ، فإن صحة أداء الشهادة لا تعتمد وجود الملك حقيقة لأن ذلك غيب لا يطلع عليه العباد فجاز أن يكون أحدهما اعتمد سبب الملك بأن رآه يشتري فشهد على ذلك والآخر اعتمد اليد فشهد على ذلك فكانت الشهادتان صحيحتين انتهى .

أقول : الظاهر من تقريره أنه قد حمل قول المصنف ولأن المطلق للشهادة إلخ على منع قول الشافعي : إن إحدى البينتين كاذبة بيقين فيرد عليه أنه لا مجال لمنع ذلك على ما ذهب إليه جمهور المحققين من أن معنى صدق الخبر مطابقته للواقع ، ومعنى كذبه عدم مطابقته لأن استحالة اجتماع الملكين في كل العين في حالة واحدة ضرورية فكذب إحداهما : أي عدم مطابقتها للواقع متيقن بلا ريب ، وما ذكره في معرض السند للمنع لا يجدي طائلا من دفع هذا كما لا يخفى .

والوجه عندي أن لا يكون مراد المصنف بقوله المذكور منع قول الشافعي ذلك ، بل أن يكون مراده به القول بالموجب : أي إثبات مدعانا مع التزام ما قاله الخصم . وتقريره أن المطلق للشهادة في حق كل واحد منهما محتمل الوجود بأن يعتمد أحدهما بسبب الملك والآخر اليد ، وكل شهادة لها مطلق كذلك فهي صحيحة سواء طابقت الواقع أو لم تطابقه ; لأن صحة الشهادة لا تعتمد تحقق المشهود به في الواقع ، فإن ذلك غيب لا يطلع عليه العباد بل إنما تعتمد ظاهر الحال فصحت الشهادتان ( فيجب العمل بهما ما أمكن ) لأن البينات حجج الله تعالى والعمل بها واجب مهما أمكن وقد أمكن هاهنا ( بالتنصيف إذ المحل يقبله ) أي يقبل التنصيف ( وإنما ينصف لاستوائهما ) أي لاستواء المدعيين ( في سبب الاستحقاق ) [ ص: 247 ] وهو الشهادة .

فحاصل كلام المصنف هاهنا على ما وجهناه أن مدار العمل بالشهادتين صحتهما لا صدقهما ، فإنه مما لا يطلع عليه العباد ، وأن وجه صحتهما ما ذكره يرشد إليه أنه قال في التفريع : فصحت الشهادتان ولم يقل فصدقت الشهادتان . ثم إن بعض الفضلاء اعترض على قول صاحب العناية ولا نسلم كذب إحداهما بيقين . وأجاب عنه حيث قال : فيه بحث ، فإن الكذب هو عدم مطابقة الحكم للواقع وعدم مطابقة كلام إحداهما لنفس الأمر من أجلى الواضحات ، فكيف يمنع وليس فيما ذكره في معرض السند ما يدفع ذلك كما لا يخفى ؟ والجواب أن المانع عن قبول الشهادة هو كذبها شرعا وهو مفقود هاهنا ، وإلا لزم اجتماع إطلاق الشهادة وتكذيبها شرعا . فالذي لا يسلمه الشارح هو الكذب الشرعي فليتأمل انتهى .

أقول : في الجواب بحث ، إذ الظاهر أن مراده بكذبها شرعا عدم مطابقتها للاعتقاد لأنه هو الذي يمكن أن يراد بلفظ الكذب هاهنا بعد أن لا يكون المراد به عدم مطابقة الحكم للواقع ولكنه ليس بموجه لأن كون صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ، وكذبه عدم مطابقته لاعتقاده مذهب النظام ومن تابعه . وقد أبطله المحققون بإجماع المسلمين على تصديق اليهودي في قوله : الإسلام حق مع مخالفته لاعتقاده ، وتكذيبه في قوله : الإسلام باطل مع مطابقته لاعتقاده ، فكيف يحمل الكذب الشرعي على مثل هذا المذهب المزيف ويجعل مبنى الاستدلال أئمتنا في هذه المسألة ؟ وأيضا لو لم يكن الكذب الشرعي عدم المطابقة للواقع بل كان عدم المطابقة للاعتقاد لما كان لما ورد في قواعد الشرع من أنه تعمد الكذب ولم يتعمده معنى ; لأن الكذب بمعنى عدم المطابقة للاعتقاد لا يتصور بدون التعمد . وأيضا لا يندفع ما قاله الشافعي بمنع كذب إحدى البينتين بيقين بمعنى عدم المطابقة للاعتقاد ، إذ يكفي له كذب إحداهما بيقين بمعنى عدم المطابقة للواقع فإن التزم جواز العمل بهما عند تيقن عدم مطابقة إحداهما للواقع فلم لا يلتزم جواز العمل بهما عند تيقن كذب إحداهما بمعنى عدم المطابقة للواقع .

والفرق بمجرد إطلاق لفظ الكذب وعدم إطلاقه لا يؤثر في تحقيق معنى المسألة ، فإنما هو اعتبار لفظي فلا ينبغي أن يترك به القول المعول عليه في معنى الصدق والكذب . ثم إن قوله : وإلا لزم اجتماع إطلاق الشهادة وتكذيبها شرعا إن أراد به أن يلزم اجتماع إطلاق كل واحد من الشهادتين ، وتكذيبها بعينها ممنوع ، وإن أراد به أنه يلزم اجتماع إطلاق كل واحد منهما وتكذيب إحداهما لا بعينها فمسلم ، لكن لا نسلم المحذور فيه ، إذ الكذب بالنسبة إلى كل واحدة منهما بعينها كان محتملا لا محققا فتأمل




الخدمات العلمية