الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى ( والواجب منه أن يمسح ما يقع عليه اسم المسح وإن قل ، وقال أبو العباس بن القاص : أقله ثلاث شعرات كما نقول في الحلق في الإحرام ، والمذهب أنه لا يتقدر لأن الله تعالى - : أمر بالمسح وذلك يقع على القليل والكثير ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) المشهور في مذهبنا الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق أن مسح الرأس لا يتقدر وجوبه بشيء ، بل يكفي فيه ما يمكن ، قال أصحابنا : حتى لو مسح بعض شعرة واحدة أجزأه ، هكذا صرح به الأصحاب ونقله إمام الحرمين عن الأئمة ، ويتصور المسح على بعض شعرة بأن يكون رأسه مطليا بحناء ونحوه بحيث لم يبق من الشعر ظاهرا إلا شعرة فأمر يده عليها على رأسه المطلي ، وقال ابن القاص وأبو الحسن بن خيران في كتابه اللطيف ( وهو غير أبي علي بن خيران ) : أقله مسح ثلاث شعرات ، وحكاه الماوردي عن أصحابنا البصريين قال : وعندي أن أقله أن يمسح بأقل شيء من أصبعه على أقل شيء من رأسه ; لأنه أقل ما يقتصر عليه في العرف ، وقال البغوي : ينبغي أن لا يجزي أقل من قدر الناصية ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح أقل منها ، وحكي هذا عن [ ص: 431 ] المزني . وقول المصنف ( كما نقول في الحلق في الإحرام ) يعني الحلق الذي هو نسك فإنه لا يحصل إلا بثلاث شعرات . وكذا الحلق الذي هو حرام على المحرم لا تكمل الفدية فيه إلا بثلاث شعرات . فقاس جماعة على الحلق الأول ، وآخرون على الثاني ، وآخرون عليهما ، وكله صحيح ، والأول أجود والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في أقل ما يجزي من مسح الرأس وقد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا أنه ما يقع عليه الاسم وإن قل ، وحكاه ابن الصباغ عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وحكاه أصحابنا عن الحسن البصري وسفيان الثوري وداود ، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات أشهرها : ربع الرأس . والثانية : قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع . والثالثة : قدر الناصية ، وعن أبي يوسف : نصف الرأس . وعن مالك وأحمد والمزني : جميع الرأس على المشهور عنهم . وقال محمد بن سلمة من أصحاب مالك : إن ترك نحو ثلث الرأس جاز ، وهي رواية عن أحمد . واحتج لمن أوجب الجميع بقوله تعالى - : { وامسحوا برءوسكم } قالوا والباء للإلصاق كقوله تعالى - : { وليطوفوا بالبيت العتيق } ولأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح الجميع ، وقياسا على التيمم في قوله تعالى - : { فاغسلوا وجوهكم } ويجب فيه الاستيعاب . واحتج أصحابنا بأن المسح يقع على القليل والكثير ، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته ، فهذا يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع التقدير بالربع والثلث والنصف فإن الناصية دون الربع فتعين أن الواجب ما يقع عليه الاسم ، والذي اعتمده إمام الحرمين في كتابه الأساليب في الخلاف أن المسح إذا أطلق فالمفهوم معه المسح من غير اشتراط للاستيعاب ، وانضم إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح الناصية وحدها . ولم يخص [ ص: 432 ] أحد الناصية ، ومنع جواز قدرها من موضع آخر ، فدل على جواز مطلق المسح .

                                      وأما قولهم الباء للإلصاق فقال أصحابنا : لا نسلم أنها هنا للإلصاق بل هي للتبعيض ، ونقلوا ذلك عن بعض أهل العربية ، وقال جماعة منهم إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه كانت للتبعيض كقوله { وامسحوا برءوسكم } وإن لم يتعد فللإلصاق كقوله تعالى - : { وليطوفوا بالبيت } قال أصحابنا : وعلى هذا يحصل الجمع بين الآية والأحاديث . فيكون النبي صلى الله عليه وسلم مسح كل الرأس في معظم الأوقات بيانا لفضيلته ، واقتصر على البعض في وقت بيانا للجواز ، وأما قياسهم على التيمم فجوابه من وجهين ( أحدهما ) أن السنة بينت أن المطلوب بالمسح في التيمم الاستيعاب وفي الرأس البعض .

                                      ( الثاني ) فرق الشافعي في مختصر المزني بينهما فقال : مسح الرأس أصل فاعتبر فيه حكم لفظه ، والتيمم بدل عن غسل الوجه فاعتبر فيه حكم مبدله . فإن قيل : هذا الفرق فاسد بالمسح على الخف فالجواب أن هذا التعليل يقتضي استيعاب الخف بالمسح لكن ترك ذلك لوجهين : ( أحدهما ) الإجماع على أنه لا يجب .

                                      ( الثاني ) أنه يفسد الخف مع أنه مبني على التخفيف ، ولهذا يجوز مع القدرة على غسل الرجل بخلاف التيمم والله أعلم . وأما قول ابن القاص ومن وافقه : أنه يشترط مسح ثلاث شعرات كالحلق في الإحرام فأجاب الأصحاب بأن المطلوب في الحلق الشعر ، وتقدير الآية : محلقين شعر رءوسكم ، والشعر إما جمع كما يقوله أهل اللغة وإما اسم جنس كما يقوله أهل النحو والتصريف وهو الصحيح ، وأقل الجمع ثلاث بخلاف المسح فإنه غير منوط بالشعر ، واسم المسح يقع على القليل ، وهذا الفرق مشهور ، وممن ذكره بمعناه إمام الحرمين والمتولي واتفق الأصحاب على تضعيف قول ابن القاص قال إمام الحرمين : هو غلط ، لأن الاستيعاب قد سقط وبطل التقدير فتعين الاكتفاء بما يقع عليه الاسم ، قال الرافعي : وهل يختص قول ابن القاص بما إذا مسح الشعر ؟ أم يجزي في مسح البشرة ويشترط مسح قدر ثلاث شعرات ؟ في كلام النقلة ما يشعر بالاحتمالين ، والأول أظهر والله أعلم




                                      الخدمات العلمية