الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
حذف المفعول وهو ضربان : أحدهما : أن يكون مقصودا مع الحذف ، فينوى لدليل ، ويقدر في كل موضع ما يليق به ; كقوله تعالى : فعال لما يريد ( البروج : 16 ) ، أي : يريده .

فغشاها ما غشى ( النجم : 54 ) أي : غشاها إياه .

الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( الرعد : 26 ) .

لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ( هود : 43 ) .

وسلام على عباده الذين اصطفى ( النمل : 59 ) .

أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( القصص : 62 ) .

وكل هذا على حذف ضمير المفعول ، وهو مراد ، حذف تخفيفا لطول الكلام بالصفة ، ولولا إرادة المفعول وهو الضمير لخلت الصلة من ضمير يعود على الموصول ، وذلك لا يجوز ، وكان في حكم المنطوق به ، فالدلالة عليه من وجهين : اقتضاء الفعل له واقتضاء الصلة إذا كان العائد .

ومنه قوله تعالى : ( وما عملت أيديهم ) ( يس : 35 ) في قراءة حمزة والكسائي بغير ها ، أي : ما عملته ، بدليل قراءة الباقين ، فـ " ما " في موضع خفض للعطف على ثمره .

[ ص: 234 ] ويجوز أن تكون " ما " نافية ، والمعنى : ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم ; فيكون أبلغ في الامتنان ، ويقوي ذلك قوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ( الواقعة : 63 - 64 ) وعلى هذا فلا تكون الهاء مرادة ; لأنها غير موصولة .

وجعل بعضهم منه قوله تعالى : ويشرب مما تشربون ( المؤمنون : 33 ) وهو فاسد ; لأن شرب يتعدى بنفسه .

والغرض حينئذ بالحذف أمور : منها : قصد الاختصار عند قيام القرائن ; والقرائن إما حالية كما في قوله تعالى : رب أرني أنظر إليك ( الأعراف : 143 ) لظهور أن المراد : أرني ذاتك ، ويحتمل أن يكون هاب المواجهة بذلك ، ثم براه الشوق ، ويجوز أن يكون أخر ليأتي به مع الأصرح ; لئلا يتكرر هذا المطلوب العظيم على المواجهة إجلالا .

ومنه قوله تعالى : على أن تأجرني ( القصص : 27 ) الظاهر أنه متعد حذف مفعوله ; أي : تأجرني نفسك .

وجعل منه السكاكي قوله تعالى : ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ( القصص : 23 ) فمن قرأ بكسر الدال من يصدر فإنه حذف المفعول في خمسة مواضع ، والأقرب أنه من الضرب الثاني كما سنبينه فيه ، إن شاء الله تعالى .

وقوله : فإذا أفضتم من عرفات ( البقرة : 198 ) أي : أنفسكم .

[ ص: 235 ] وقوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ( السجدة : 14 ) ، أي : فذوقوا العذاب .

وقوله : إني أسكنت من ذريتي ( إبراهيم : 37 ) أي : ناسا أو فريقا .

وقوله : فادع لنا ربك يخرج لنا ( البقرة : 61 ) أي : شيئا .

وقوله : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ( إبراهيم : 48 ) أي : غير السماوات ، وقوله : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ( الإسراء : 110 ) على أن الدعاء بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين ; أي : سموه الله ، أو سموه الرحمن ، أيا ما تسموه فله الأسماء الحسنى ، إذ لو كان المراد بمعنى الدعاء المتعدي لواحد لزم الشرك إن كان مسمى الله غير مسمى الرحمن ، وعطف الشيء على نفسه إن كان عينه .

ومنها قصد الاحتقار كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ( المجادلة : 21 ) أي : الكفار ومنها قصد التعميم ; ولا سيما إذا كان في حيز النفي ; كقوله تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ( يونس : 101 ) وكذا وما كانوا مؤمنين ( الأعراف : 72 ) وكثيرا ما يعتري الحذف في رءوس الآي ; نحو : لو كانوا يعلمون ( البقرة : 102 ) .

و لقوم يشكرون ( الأعراف : 58 ) .

أفلا تسمعون ( القصص : 71 ) .

أفلا تبصرون ( القصص : 72 ) .

أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ( البقرة : 77 ) .

إنما نحن مستهزئون ( البقرة : 14 ) .

فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ( البقرة : 22 ) .

وكذا كل موضع كان الغرض إثبات المعنى الذي دل عليه الفعل لفاعل غير متعلق بغيره .

[ ص: 236 ] ومنه قوله تعالى : والله يدعو إلى دار السلام ( يونس : 25 ) أي : كل أحد ; لأن الدعوة عامة والهداية خاصة .

وأما قوله تعالى : وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ( المطففين : 3 ) فكال ووزن يتعديان إلى مفعولين : أحدهما باللام ، والتقدير : كالوا ووزنوا لهم ، وحذف المفعول الثاني لقصد التعميم .

وما ذكرناه من كون " هم " منصوبا في الموضع بعد اللام هو الظاهر ، وقرره ابن الشجري في " أماليه " قال : وأخطأ بعض المتأولين حيث زعم أن " هم " ضمير مرفوع أكدت به الواو كالضمير في قولك : " خرجوا هم " فـ " هم " على هذا التأويل عائد على المطففين .

ويدل على بطلان هذا القول أمران : أحدهما : عدم ثبوت الألف بعد الواو في " كالوهم " و " وزنوهم " ولو كان كما قال لأثبتوها في خط المصحف ، كما أثبتوها في قوله تعالى : خرجوا من ديارهم ( البقرة : 243 ) قالوا لنبي لهم ( البقرة : 246 ) ونحوه .

والثاني : أن تقدم ذكر " الناس " يدل على أن الضمير راجع إليهم ; فالمعنى إذا اكتالوا على الناس يستوفون ( المطففين : 2 ) وإذا كالوا للناس أو وزنوا للناس يخسرون .

وجعل الزمخشري من حذف المفعول قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( البقرة : 185 ) [ ص: 237 ] أي : في المصر ، وعند أبي علي أن الشهر ظرف ، والتقدير : فمن شهد منكم المصر في الشهر .

ومنها تقدم مثله في اللفظ ، كقوله تعالى : يمحوا الله ما يشاء ويثبت ( الرعد : 39 ) أي : ويثبت ما يشاء .

فلما كان المفعول الثاني بلفظ الأول في عمومه واحتياجه إلى الصلة جاز حذفه ; لدلالة ما ذكر عليه كقوله : ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم ( المؤمنون : 96 ) .

وقوله : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ( إبراهيم : 48 ) أي : غير السماوات .

وقوله : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ( الحديد : 10 ) أي : ومن أنفق من بعده وقاتل ; بدليل ما بعده .

وقوله : وأبصر فسوف يبصرون ( الصافات : 179 ) أي : أبصرهم ; بدليل قوله : وأبصرهم ( الصافات : 175 ) وسبق عن ابن ظفر السر في ذكر المفعول في الأول ، وحذفه في الثاني في هذه الآية الشريفة أن الأولى اقتضت نزول العذاب بهم يوم بدر ، فلما تضمنت التشفي قيل : أبصرهم .

وأما الثاني فالمراد بها يوم الفتح ، واقترن بها مع الظهور عليهم تأمينهم والدعاء إلى إيمانهم ، فلم يكن وقتا للتشفي بل للبروز ; فقيل له : ( أبصر ) والمعنى فسيبصرون منك عليهم .

وقوله : فهل وجدتم ما وعد ربكم ( الأعراف : 44 ) أي : وعدكم ربكم ; فحذف لدلالة قوله قبله : ما وعدنا ربنا ( الأعراف : 44 ) قاله الزمخشري .

وقد يقال : أطلق ذلك ليتناول كل ما وعد الله من الحساب والبعث والثواب والعقاب ، وسائر أحوال القيامة ; لأنهم كانوا يكذبون بذلك أجمع ، ولأن الموعود كله مما ساءهم ، [ ص: 238 ] وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم ، فأطلق لذلك ليكون من الضرب الآتي .

وقوله : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية ( الزمر : 22 ) .

ومنها رعاية الفاصلة نحو : والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ( الضحى : 1 - 3 ) أي : ما قلاك ، فحذف المفعول ; لأن فواصل الآي على الألف .

ويحتمل أنه للاختصار لظهور المحذوف قبله ; أي : أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه ؟ ! فحذف لدلالة : فويل للقاسية ( الزمر : 22 ) .

ومنها البيان بعد الإبهام كما في مفعول المشيئة والإرادة ، فإنهم لا يكادون يذكرونه ، كقوله تعالى : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ( البقرة : 20 ) .

ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ( الأنعام : 35 ) .

ولو شاء لهداكم أجمعين ( النحل : 9 ) .

فإن يشأ الله يختم على قلبك ( الشورى : 24 ) .

من يشأ الله يضلله ( الأنعام : 39 ) .

ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ( السجدة : 13 ) .

التقدير : لو شاء الله أن يفعل ذلك لفعل .

وشرط ابن النحوية في حذفه دخول أداة الشرط عليه ; كما سبق من قوله : فإن يشأ الله يختم على قلبك ( الشورى : 24 ) .

[ ص: 239 ] و لو نشاء لقلنا مثل هذا ( الأنفال : 31 ) .

من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( الأنعام : 39 ) .

والحكمة في كثرة حذف مفعول المشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مثيلة الجواب ، ولذلك كانت الإرادة كالمشيئة في جواز اطراد حذف مفعولها ; صرح به الزمخشري في تفسير سورة البقرة ، وابن الزملكاني في " البرهان " ، والتنوخي في " الأقصى " كقوله : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ( الصف : 8 ) وإنما حذفه لأن في الآية قبلها ما يدل على أنهم افتروا الكذب ; وهو بزعمهم إطفاء نور الله ، فلو ذكر أيضا لكان كالمتكرر ; فحذف وفسر بقوله : ليطفئوا نور الله بأفواههم ( الصف : 8 ) وكان في الحذف تنبيه على هذا المعنى الغريب .

وينبغي أن يتمهل في تقدير مفعول المشيئة ; فإنه يختلف المعنى بحسب التقدير ; ألا ترى إلى قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ( السجدة : 13 ) فإن التقدير كما قاله عبد القاهر الجرجاني : ولو شئنا أن نؤتي كل نفس هداها لآتيناها ، لا يصح إلا على ذلك لأنه إن لم يقدر هذا المفعول أدى - والعياذ بالله - إلى أمر عظيم ; وهو نفي أن يكون لله مشيئة على الإطلاق ; لأن من شأن " لو " أن يكون الإثبات بعدها نفيا ، ألا ترى أنك إذا قلت : لو جئتني أعطيتك ; كان المعنى على أنه لم يكن مجيء ولا إعطاء ، وأما قوله تعالى : ولو شئنا لرفعناه بها ( الأعراف : 176 ) فقدره النحويون : فلم نشأ فلم نرفعه .

[ ص: 240 ] وقال ابن الخباز : الصواب أن يكون التقدير " فلم نرفعه فلم نشأ " لأن نفي اللازم يوجب نفي الملزوم ، فوجود الملزوم يوجب وجود اللازم ; فيلزم من وجود المشيئة وجود الرفع ، ومن نفى الرفع نفى المشيئة ، وأما نفي الملزوم فلا يوجب نفي اللازم ، ولا وجود اللازم وجود الملزوم .

انتهى .

ويؤيده قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) فإن المقصود انتفاء وجود الآلهة ; لانتفاء لازمها وهو الفساد .

ويمكن توجيه كلام النحويين بأنهم جعلوا الأول شرطا للثاني ; لأنهم عدوا " لو " من حروف الشرط ، وانتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط ، وقد يكون الشرط مساويا للمشروط ; بحيث يلزم من وجوده وجود المشروط ، ومن عدمه عدمه ، والمقصود في الآية تعليل عدم الرفع بعدم المشيئة لا العكس .

وأوضح منه قوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ( الأعراف : 96 ) جعل انتفاء الملزوم سببا لانتفاء اللازم ; لأن " كذبوا " ملزوم عدم الإيمان والتقوى ، فأخذهم بذلك ملزوم عدم فتح بركات السماء والأرض عليهم ، والفاء في قوله : فأخذناهم للسببية ، وجعل التكذيب سببا لأخذهم بكفرهم ; ولعل ذلك يختلف باختلاف المواد ، ووقوع الأفراد مع أن القول ما قاله ابن الخباز ، وأما ما جاء على خلافه فذلك من خصوص المادة ، وذلك لا يقدح في القضية الكلية ، ألا ترى أنا نقول : الموجبة الكلية لا تنعكس كلية مع أنها تنعكس كلية في بعض المواضع ، كقولنا : كل إنسان ناطق ، ولا يعد ذلك مبطلا للقاعدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية