الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( والسابقون السابقون أولئك المقربون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في إعرابه ثلاثة أوجه : أحدها : ( والسابقون ) عطف على " أصحاب الميمنة " وعنده تم الكلام ، وقوله : ( السابقون أولئك المقربون ) جملة واحدة ، والثاني : أن قوله : ( والسابقون السابقون ) جملة واحدة ، كما يقول القائل : أنت أنت . وكما قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            أنا أبو النجم وشعري شعري



                                                                                                                                                                                                                                            وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون لشهرة أمر المبتدأ بما هو عليه فلا حاجة إلى الخبر عنه ، وهو مراد الشاعر وهو المشهور عند النحاة . والثاني : للإشارة إلى أن في المبتدأ ما لا يحيط العلم به ولا يخبر عنه ولا يعرف منه إلا نفس المبتدأ ، وهو كما يقول القائل لغيره : أخبرني عن حال الملك . فيقول : لا أعرف من الملك إلا أنه [ ص: 128 ] ملك . فقوله : ( والسابقون السابقون ) أي لا يمكن الإخبار عنهم إلا بنفسهم ، فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر ، ( وههنا لطيفة ) : وهي أنه في أصحاب الميمنة قال : ( ما أصحاب الميمنة ) بالاستفهام وإن كان للإعجاز ، لكن جعلهم مورد الاستفهام ، وههنا لم يقل : والسابقون ما السابقون ؛ لأن الاستفهام الذي للإعجاز يورد على مدعي العلم فيقال له : إن كنت تعلم فبين الكلام ، وأما إذا كان يعترف بالجهل فلا يقال له : كذبت ولا يقال : كيف كذا ، وما الجواب عن ذلك ، فكذلك في : ( والسابقون ) ما جعلهم بحيث يدعون ، فيورد عليهم الاستفهام فيبين عجزهم ، بل بنى الأمر على أنهم معترفون في الابتداء بالعجز ، وعلى هذا فقوله تعالى : ( والسابقون السابقون ) كقول العالم لمن سأل عن مسألة معضلة وهو يعلم أنه لا يفهمها وإن كان أبانها غاية الإبانة أن الأمر فيها على ما هو عليه ولا يشتغل بالبيان . وثالثها : هو أن " السابقون " ثانيا تأكيد لقوله : ( والسابقون ) والوجه الأوسط هو الأعدل الأصح ، وعلى الوجه الأوسط قول آخر : وهو أن المراد منه أن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ( أولئك المقربون ) يقتضي الحصر فينبغي أن لا يكون غيرهم مقربا ، وقد قال في حق الملائكة إنهم مقربون ، نقول : ( أولئك المقربون ) من الأزواج الثلاثة ، فإن قيل : ( فأصحاب الميمنة ) ليسوا من المقربين ، نقول : للتقريب درجات ( والسابقون ) في غاية القرب ، ولا حد هناك ، ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يقال : المراد السابقون مقربون من الجنات حال كون أصحاب اليمين متوجهين إلى طريق الجنة ؛ لأنه بمقدار ما يحاسب المؤمن حسابا يسيرا ويؤتى كتابه بيمينه ، يكون السابقون قد قربوا من المنزل ، أو قربهم إلى الله في الجنة ، وأصحاب اليمين بعد متوجهون إلى ما وصل إليه المقربون ، ثم إن السير والارتفاع لا ينقطع ، فإن السير في الله لا انقطاع له ، والارتفاع لا نهاية له ، فكلما تقرب أصحاب اليمين من درجة السابق ، يكون قد انتقل هو إلى موضع أعلى منه ، فأولئك هم المقربون في جنات النعيم ، في أعلى عليين حال وصول أصحاب اليمين إلى الحور العين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : بعد بيان أقسام الأزواج لم يعد إلى بيان حالهم على ترتيب ذكرهم ، بل بين حال السابقين مع أنه أخرهم ، وأخر ذكر أصحاب الشمال مع أنه قدمهم أولا في الذكر على السابقين ، نقول : قد بينا أن عند ذكر الواقعة قدم من ينفعه ذكر الأهوال ، وأخر من لا يختلف حاله بالخوف والرجاء ، وأما عند البيان فذكر السابق لفضيلته وفضيلة حاله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية