الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وليس نقص المهر نقصا في النسب ، والمهر لها دونهم فهي أولى به منهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح .

                                                                                                                                            إذا رضيت المرأة أن تنكح نفسها بأقل من مهر مثلها لم يكن للأولياء أن يعترضوا عليها فيه ، ولا أن يمنعوها من النكاح لنقصه ، فإن منعوها صار المانع لها فاصلا وزوجها الحاكم ، وبه قال مالك ، وأبو يوسف ، ومحمد .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : للأولياء الاعتراض عليها في نقص المهر ولا يصيروا عضلة بمنعها منه ، وإن نكحت فلهم فسخ نكاحها إلا أن يكمل لها مهر مثلها استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم أدوا العلائق قيل : يا رسول الله ، وما العلائق : قال ما ترضى به الأهلون فلما كان قوله : " أدوا العلائق " خطابا للأزواج كان قوله : ما ترضى به الأهلون " إشارة إلى الأولياء ، ولأن عقد النكاح يشتمل على بدلين ، هما : البضع ، والمهر ، فلما كان للأولياء الاعتراض في بضعها أن تضعه في غير كفء ، كان لهم الاعتراض في مهرها أن ينكحها بأقل من مهر المثل ، ويتحرر منه قياسان :

                                                                                                                                            [ ص: 109 ] أحدهما : أنه أحد بدلي عقد النكاح ، فجاز للأولياء الاعتراض فيه كالبضع .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما اعترض به الأولياء في نكاح الصغيرة اعترضوا به في نكاح الكبيرة كالكفاءة ، ولأن في بعض المهر عارا على الأهل بجهرهم بكثيره وإخفائهم لقليله ، فصار دخول العار عليهم في نقصانه كدخوله عليهم في نكاح غير كفء ، فكان لهم رفع هذا العار عنهم بالمنع منه : ولأن في نقصان مهرها ضررا لاحقا بنساء أهلها غير اعتبار مهر أمثالهن بها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار .

                                                                                                                                            ودليلنا رواية عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن امرأة تزوجت على نعلين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك وما لك بهاتين النعلين ، قالت : نعم ، فأجاز ومن هذا الحديث دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه اعتبر رضاها به دون الأولياء .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لم يسأل : هل ذلك مهر مثلها ؟ فدل على أن نقصان المهر ورضا الأولياء غير معتبرين ، ولأن ما ملكت الإبراء منه ملكت تقديره كالأثمان ، ولأن ما ثبت لها في الأثمان ثبت لها في المهور كالإبراء : ولأن ثبوت الولاية عليها في بضع لا يوجب ثبوت الولاية عليها في بدل .

                                                                                                                                            أصله : مهر أمثالها : ولأن لها منفعتين : منفعة استخدام ، ومنفعة استمتاع ، فلما لم يملك الأولياء الاعتراض عليها في الاستخدام إذا أجرت نفسها بأقل من أجرة مثلها ، لم يملكوا الاعتراض في الاستمتاع إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا : أنه أحد المنفعتين ، فلم يملك أولياؤها مع جواز أمرها الاعتراض عليها في بدله كالإجارة : ولأن وجوب المهر قد يكون تارة عن اختيار ومراضاة ، وذلك في العقود ، وتارة عن غير اختيار ومراضاة ، وذلك في إصابة الشبهة وما شاكله ، فلما ملكت بحقيقة إذا وجب بغير اختيارها ، فأولى أن تملك بحقيقة إذا وجب باختيارها : لأنه مع الاختيار أخف ومع عدمه أغلظ ، ولأنه يلحق الأولياء من العار إذا نكحت بأخس الأموال جنسا كالنوى وقشور الرمان أكثر ما يلحقهم إذا نكحت بأقل المهور قدرا ، فلما لم يكن للأولياء الاعتراض عليها في خسة الجنس ، لم يكن لهم الاعتراض عليها في نقصان القدر .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : أدوا العلائق ، فهو أنه أمر الأزواج بأداء العلائق وقوله : إن [ ص: 110 ] العلائق ما تراضى به الأهلون يعني أهلي العلائق ، وأهلوها هم الزوجات دون الأولياء ، فكان الخبر دليلا على أبي حنيفة لا له .

                                                                                                                                            وأما قياسه على البضع ، فالجواب عنه أن الأولياء إنما ملكوا الاعتراض فيه لما فيه من نقص النسب ودخول العار على الأهل والولد ، وليس في تخفيف المهر عار ، كما لم يكن في إسقاطه عار ، وهو دليل الشافعي ، وفي جواب عن استدلال ، وأما الاستدلال بدخول الضرر على نساء العصبات فلو كان لهذا المعنى بمستحق الاعتراض فيه لا تستحقه النساء اللائي يدخل عليهن الضرر دون الأولياء ولاشترك فيه القريب والبعيد ولا اعتراض عليهن في الجنس كالاعتراض في القدر ، وكانت ممنوعة من الزيادة فيه كما منعت من النقصان منه ، فلما فسد الاعتراض بهذه المعاني كان بالنقصان أفسد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية