الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ( فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ) هذا وجه تعلقه معنى ، وأما تعلقه لفظا فنقول : لما قال : ( فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها ) وكان فيها أن رجوع الحياة والنفس إلى البدن ليس تحت قدرتهم ولا رجوع لهم بعد الموت إلى الدنيا صار كأنه قال : أنتم بعد الموت دائمون في دار الإقامة ومجزيون ، فالمجزي إن كان من المقربين فله الروح والريحان ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في معنى الروح وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هو الرحمة قال تعالى : ( ولا تيأسوا من روح الله ) [ ص: 175 ] [ يوسف : 87 ] أي من رحمة الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : الراحة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : الفرح ، وأصل الروح السعة ، ومنه الروح لسعة ما بين الرجلين دون الفحج ، وقرئ : " فروح " بضم الراء بمعنى الرحمة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في الكلام إضمار تقديره : فله روح أفصحت الفاء عنه لكونه فاء الجزاء لربط الجملة بالشرط فعلم كونها جزاء ، وكذلك إذا كان أمرا أو نهيا أو ماضيا ؛ لأن الجزاء إذا كان مستقبلا يعلم كونه جزاء بالجزم الظاهر في السمع والخط ، وهذه الأشياء التي ذكرت لا تحتمل الجزم ، أما غير الأمر والنهي فظاهر ، وأما الأمر والنهي فلأن الجزم فيهما ليس لكونهما جزاءين فلا علامة للجزاء فيه ، فاختاروا الفاء فإنها لترتيب أمر على أمر ، والجزاء مرتب على الشرط .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في الريحان ، وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى : ( ذو العصف والريحان ) [ الرحمن : 12 ] ولكن ههنا فيه كلام ، فمنهم من قال : المراد ههنا ما هو المراد ثمة ، إما الورق وإما الزهر وإما النبات المعروف ، وعلى هذا فقد قيل : إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه ، وقيل : إن المراد ههنا غير ذلك وهو الخلود ، وقيل : هو رضاء الله تعالى عنهم فإذا قلنا : الروح هو الرحمة فالآية كقوله تعالى : ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ) [ التوبة : 21 ] وأما : ( جنة نعيم ) فقد تقدم القول فيها عند تفسير السابقين في قوله : ( أولئك المقربون في جنات النعيم ) [ الواقعة : 11 ] وذكرنا فائدة التعريف هناك وفائدة التنكير ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ذكر في حق المقربين أمورا ثلاثة ههنا وفي قوله تعالى : ( يبشرهم ربهم ) [ التوبة : 21 ] وذلك لأنهم أتوا بأمور ثلاثة وهي : عقيدة حقة وكلمة طيبة وأعمال حسنة ، فالقلب واللسان والجوارح كلها كانت مرتبة برحمة الله على عقيدته ، وكل من له عقيدة حقة يرحمه الله ويرزقه الله دائما وعلى الكلمة الطيبة وهي كلمة الشهادة ، وكل من قال : لا إله إلا الله فله رزق كريم والجنة له على أعماله الصالحة ، قال تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ) [ التوبة : 111 ] وقال : ( ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) [ النازعات : 40 ] فإن قيل : فعلى هذا من أتى بالعقيدة الحقة ، ولم يأت بالكلمة الطيبة ينبغي أن يكون من أهل الرحمة ولا يرحم الله إلا من قال : لا إله إلا الله ، نقول : من كانت عقيدته حقة ، لا بد وأن يأتي بالقول الطيب فإن لم يسمع لا يحكم به ؛ لأن العقيدة لا اطلاع لنا عليها فالقول دليل لنا ، وأما الله تعالى فهو عالم الأسرار ، ولهذا ورد في الأخبار أن من الناس من يدفن في مقابر الكفار ويحشر مع المؤمنين ، ومنهم من يدفن في مقابر المسلمين ويحشر مع الكفار لا يقال : إن من لا يعمل الأعمال الصالحة لا تكون له الجنة على ما ذكرت ، لأنا نقول : الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن عقيدته الحقة وكلمته الطيبة لا يتركانه بلا عمل ، فهذا أمر غير واقع وفرض غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أنا نقول من حيث الجزاء ، وأما من قال : لا إله إلا الله فيدخل الجنة ، وإن لم يعمل عملا لا على وجه الجزاء بل بمحض فضل الله من غير جزاء ، وإن كان الجزاء أيضا من الفضل لكن من الفضل ما يكون كالصدقة المبتدأة ، ومن الفضل ما لا كما يعطي الملك الكريم آخر والمهدى إليه غير ملك لا يستحق هديته ولا رزقه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية