الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين

الخطاب لجميع الناس؛ والمراد أن النوع بجملته ممكن في الأرض؛ و"المعايش": جمع "معيشة"؛ وهي لفظة تعم المأكول الذي يعاش به؛ والتحرف الذي يؤدي إليه؛ وقرأ الجمهور: "معايش" بكسر الياء؛ دون همز؛ وقرأ الأعرج وغيره: "معائش"؛ بالهمز؛ كـ "مدائن"؛ و"سفائن"؛ ورواه خارجة عن نافع ؛ وروي عن ورش : "معايش"؛ بسكون [ ص: 519 ] الياء؛ فمن قرأ: "معايش"؛ بتصحيح الياء فهو الأصوب؛ لأنها جمع "معيشة"؛ وزنها "مفعلة"؛ ويحتمل أن تكون "مفعلة"؛ بضم العين؛ قالهما سيبويه ؛ وقال الفراء : "مفعلة"؛ بفتح العين؛ فالياء في "معيشة" أصلية؛ وأعلت "معيشة"؛ لموافقتها الفعل؛ الذي هو "يعيش"؛ في الياء؛ أي في المتحرك؛ والساكن؛ وصححت "معايش"؛ في جمع التكسير؛ لزوال الموافقة المذكورة في اللفظ؛ ولأن التكسير - معنى - لا يكون في الفعل؛ إنما تختص به الأسماء؛ ومن قرأ "معايش"؛ فعلى التخفيف من "معايش"؛ ومن قرأ "معائش"؛ فأعلها؛ فذلك غلط؛ وأما توجيهه فعلى تشبيه الأصل بالزائد؛ لأن "معيشة"؛ تشبه في اللفظ "صحيفة"؛ فكما يقال: "صحائف"؛ قيل: "معائش"؛ وإنما همزت ياء "صحائف"؛ ونظائرها؛ مما الياء فيه زائدة؛ لأنها لا أصل لها في الحركة؛ وإنما وزنها "فعيلة"؛ ساكنة؛ فلما اضطر إلى تحريكها في الجمع؛ بدلت بأجلد منها.

و"قليلا"؛ نصب بـ "تشكرون"؛ ويحتمل أن تكون "ما"؛ زائدة؛ ويحتمل أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر؛ و"قليلا"؛ نعت لمصدر محذوف؛ تقديره: "شكرا قليلا شكركم"؛ أو "شكرا قليلا تشكرون".

وقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ؛ الآية؛ هذه الآية معناها التنبيه على موضع العبرة والتعجيب؛ من غريب الصنعة؛ وإسداء النعمة؛ فبدأ بالخلق؛ الذي هو الإيجاد بعد العدم؛ ثم بالتصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر؛ وإلا فلم يعر المخلوق قط من صورة.

واضطراب الناس في ترتيب هذه الآية؛ لأن ظاهرها يقتضي أن الخلق؛ والتصوير لبني آدم؛ قبل القول للملائكة أن يسجدوا؛ وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك؛ فقالت فرقة: المراد بقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ؛ آدم - عليه السلام - بنفسه؛ وإن كان [ ص: 520 ] الخطاب لبنيه؛ وذلك لما كان - عليه السلام -سبب وجود بنيه فما فعل فيه صح - مع تجوز - أن يقال: "إنه فعل في بنيه"؛ وقال مجاهد : المعنى: "ولقد خلقناكم ثم صورناكم في صلب آدم - عليه السلام -؛ وفي وقت استخراج ذرية آدم - عليه السلام - من ظهره؛ أمثال الذر؛ في صورة البشر".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويترتب في هذين القولين أن تكون "ثم"؛ على بابها في الترتيب؛ والمهلة.

وقال عكرمة ؛ والأعمش : المراد: "خلقناكم في ظهور الآباء؛ وصورناكم في بطون الأمهات"؛ وقال ابن عباس ؛ والربيع بن أنس : "أما "خلقناكم"؛ فآدم - عليه السلام -؛ وأما "صورناكم"؛ فذريته؛ في بطون الأمهات"؛ وقاله قتادة ؛ والضحاك ؛ وقال معمر بن راشد - من بعض أهل العلم -: بل ذلك كله في بطون الأمهات؛ من خلق؛ وتصوير.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقالت هذه الفرقة: إن "ثم"؛ لترتيب الأخبار بهذه الجمل؛ لا لترتيب الجمل في أنفسها؛ وقال الأخفش : "ثم"؛ في هذه الآية بمعنى الواو؛ ورد عليه نحويو البصرة.

و"ملائكة": وزنه: إما "مفاعلة"؛ وإما "معافلة"؛ بحسب الاشتقاق الذي قد مضى ذكره في سورة "البقرة"؛ وهنالك ذكرنا هيئة السجود؛ والمراد به؛ ومعنى "إبليس"؛ وكيف كان قبل المعصية؛ وأما قوله تعالى - في هذه الآية -: إلا إبليس ؛ فقال الزجاج : هو استثناء ليس من الأول؛ ولكن إبليس أمر بالسجود؛ بدليل قوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ؛ وقال غير الزجاج : الاستثناء من الأول؛ لأنا لو جعلناه منقطعا - على قول من قال: إن إبليس لم يكن من الملائكة -؛ لوجب أن إبليس لم يؤمر بالسجود؛ إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إن أمر إبليس كان بوجه آخر؛ غير قوله تعالى "اسجدوا"؛ وذلك بين الضعف.

[ ص: 521 ] وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: "للملائكة اسجدوا"؛ بضم الهاء؛ وهي قراءة ضعيفة؛ ووجهها أنه حذف همزة "اسجدوا"؛ وألقى حركتها على الهاء؛ وذلك لا يتجه؛ لأنها همزة محذوفة مع جر الهاء بحركة؛ أي شيء يلغى؛ والإلغاء إنما يكون في الوصل.

التالي السابق


الخدمات العلمية