الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ادعاء المرأة نفقة ماضية ]

المثال السابع عشر : إذا ادعت المرأة النفقة والكسوة لمدة ماضية ، فقد اختلف في قبول دعواها ، فمالك وأبو حنيفة لا يقبلان دعواها ، ثم اختلفا في مأخذ الرد ; فأبو حنيفة يسقطها بمضي الزمان ، كما يقوله منازعوه في نفقة القريب ، ومالك لا يسمع الدعوى التي يكذبها العرف والعادة ، ولا يحلف عنده فيها ، ولا يقبل فيها بينة ، كما لو كان رجل حائزا [ ص: 273 ] دارا متصرفا فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ، ومع ذلك لا يعارضه فيها ، ولا يذكر أن له فيها حقا ، ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث ، ونحو ذلك ، ثم جاء بعد تلك المدة فادعاها لنفسه ، فدعواه غير مسموعة فضلا عن إقامة بينته . قالوا : وكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناس والجيران داخلا بيته بالطعام والفاكهة واللحم والخبز ، ثم ادعت بعد ذلك أنه لم ينفق عليها في هذه المدة ; فدعواها غير مسموعة ، فضلا عن أن يحلف لها ، أو يسمع لها بينة . قالوا : وكل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة .

وهذا المذهب هو الذي ندين الله به ، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة سواه ، وكيف يليق بالشريعة أن تسمع مثل هذه الدعوى التي قد علم الله وملائكته والناس أنها كذب وزور ؟ وكيف تدعي المرأة أنها أقامت مع الزوج ستين سنة أو أكثر لم ينفق عليها فيها يوما واحدا ولا كساها فيها ثوبا ، ويقبل قولها عليه ، ويلزم بذلك كله ؟ ويقال : الأصل معها وكيف يعتمد على أصل يكذبه العرف والعادة والظاهر الذي بلغ في القوة إلى حد القطع ؟ والمسائل التي يقدم فيها الظاهر القوي على الأصل أكثر من أن تحصى ، ومثل هذا المذهب في القوة مذهب أبي حنيفة ، وهو سقوطها بمضي الزمان ; فإن البينة قد قامت بدونها ; فهي كحق المبيت والوطء .

ولا يعرف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - مع أنهم أئمة الناس في الورع والتخلص من الحقوق والمظالم - قضى لامرأة بنفقة ماضية ، أو استحل امرأة منها ، ولا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك امرأة واحدة منهن ، ولا قال لها : ما مضى من النفقة حق لك عند الزوج ; فإن شئت فطالبيه ، وإن شئت حللتيه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعذر عليه نفقة أهله أياما حتى سألته إياها ، ولم يقل لهن : هي باقية في ذمتي حتى يوسع الله وأقضيكن ، ولما وسع الله عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك ، ولا قال لها : هذا عوض عما فاتك من الإنفاق ، ولا سمع الصحابة لهذه المسألة خبرا ; وقول عمر رضي الله عنه للغياب : " إما أن تطلقوا وإما أن تبعثوا بنفقة ما مضى " في ثبوته نظر ، فإن قال ابن المنذر : " ثبت عن عمر " فإن في إسناده ما يمنع ثبوته . ولو قدر صحته فهو حجة عليهم ، ودليل على أنهم إذا طلقوا لم يلزمهم بنفقة ما مضى .

فإن قيل : وحجة عليكم في إلزامه لهم بها ، وأنتم لا تقولون بذلك .

قيل : بل نقول به ، وإن الأزواج إذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم [ ص: 274 ] يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك . وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه جعل النفقة دينا في ذمته أبدا . وهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة .

والمقصود أن على هذين المذهبين لا تسمع هذه الدعوى ، ويسمعها الشافعي وأحمد بناء على قاعدة الدعاوى ، وأن الحق قد ثبت ومستحقه ينكر قبضه فلا يقبل قول الدافع عليه إلا ببينة ; فعلى قولهما يحتاج الزوج إلى طريق تخلصه من هذه الدعوى ، ولا ينفعه دعوى النشور ، فإن القول فيه قول المرأة ، ولا يخلصه دعوى عدم التسليم الموجب للإنفاق لتمكن المرأة من إقامة البينة عليه ; فله حيلتان ; إحداهما : أن يقيم البينة على نفقته وكسوته لتلك المدة ، وللبينة أن تشهد على ذلك بناء على ما علمته وتحققته بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع ; فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه ، وليس على الحاكم أن يسأل البينة عن مستند التحمل ، ولا يجب على الشاهد أن يبين مستنده في الشهادة

والحيلة الثانية : أن ينكر التمكين الموجب لثبوت المدعى به في ذمته ، ويكون صادقا في هذا الإنكار ; فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما ادعت به الزوجة إذا كان قد أداه إليها . والتمكين الذي يوجب ما ادعت به لا حقيقة له ; فهو صادق في إنكاره .

التالي السابق


الخدمات العلمية