الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      ومن ذلك التصريح بالفوقية لله - تعالى - قال الله عز وجل : ( وهو القاهر فوق عباده ) ، ( الأنعام : 18 ) ، وقال : ( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) ، ( النحل : 50 ) ، ولما حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في بني قريظة بأن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذريتهم ، وتغنم أموالهم ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة . وفي لفظ : من فوق سبع سماوات . وأصله في الصحيحين ، وهذا سياق ابن إسحاق .

      وفي صحيح البخاري ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كانت زينب - رضي الله عنها - تفتخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات . وفي سنن أبي داود من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس وضاعت العيال ، ونهكت الأموال وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك ، أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك ، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك أتدري ما الله ؟ إن عرشه على سماواته لهكذا . وقال بأصبعه مثل القبة عليه ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب . قال ابن بشار في حديثه : إن [ ص: 152 ] الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته . وساق الحديث .

      وله عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال : كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمرت بهم سحابة ، فنظر إليها ، فقال : ما تسمون هذه ؟ قالوا : السحاب . قال : والمزن ؟ قالوا : والمزن . قال : والعنان ؟ قالوا : والعنان . قال أبو داود : ولم أتقن العنان جيدا ، قال : هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض ؟ قالوا : لا ندري . قال : إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاثة وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك ، حتى عد سبع سماوات ، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهم العرش ، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم الله - تبارك وتعالى - فوق ذلك . زاد أحمد : وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم . وفي سنن ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينما أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم ، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة . قال : وذلك قوله عز وجل : ( سلام قولا من رب رحيم ) ، قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه ، حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم . وفي [ ص: 153 ] إسناده الرقاشي ضعيف ، ومعناه ثابت في الكتاب والسنة .

      وفي حديث الشفاعة الطويل ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فأدخل على ربي - تبارك وتعالى - وهو على عرشه . . . وذكر الحديث ، وفي بعض ألفاظ البخاري في صحيحه : فأستأذن على ربي في داره ، فيؤذن لي عليه .

      قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين : هكذا قال في داره في المواضع الثلاثة ، يريد مواضع الشفاعات الثلاث التي يسجد فيها ، ثم يرفع رأسه . وعن عمير بن عبد الملك قال : خطبنا علي - رضي الله عنه - فقال : إن رسول الله حدثني عن ربه - عز وجل - فقال : وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهت من معصيتي ، فتحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي . رواه ابن أبي شيبة في كتاب العرش ، والعسال في المعرفة ، وضعفه الذهبي .

      وعن جابر بن سليم ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين ، فتبختر ، فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته ، فأمر الأرض فأخذته ، فهو يتجلجل فيها . رواه الدارمي ، وله شاهد في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . وفي حديث عمران بن حصين [ ص: 154 ] في بدء الخلق : كان الله - عز وجل - على العرش ، وكان قبل كل شيء ، وكتب في اللوح المحفوظ كل شيء يكون . حديث صحيح ، أصله في البخاري .

      وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : إن العبد ليهم بالأمر من التجارة أو الإمارة ، حتى ييسر له نظر الله له من فوق سبع سماوات ، فيقول للملائكة : اصرفوه عنه ، فإن يسرته له أدخلته النار . رواه البغوي ، وسكت الذهبي عنه .

      وعنه - رضي الله عنه - قال : العرش فوق الماء ، والله فوق العرش ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم . قال الذهبي : رواه عبد الله بن أحمد في السنة ، وأبو بكر بن المنذر ، وأبو أحمد العسال ، وأبو القاسم الطبراني ، وأبو الشيخ ، وأبو القاسم اللالكائي ، وأبو عمرو الطلمنكي ، وأبو بكر البيهقي ، وأبو عمر بن عبد البر في تواليفهم ، وإسناده صحيح . وأخرج ابن أبي شيبة أن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - أنشد النبي صلى الله عليه وسلم :


      شهدت بإذن الله أن محمدا رسول الذي فوق السماوات من عل     وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهمو
      يقول بذات الله فيهم ويعدل     وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما
      له عمل من ربه متقبل

      .

      ومن ذلك التصريح بأنه - تعالى - في السماء ، قال الله تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ) ، ( الملك : 6 - 7 ) ، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بذهيبة في أديم مقروض لم تحصل من ترابها ، قال : فقسمها بين أربعة [ ص: 155 ] نفر : بين عيينة بن بدر ، وأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل ، فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء . قال : فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألا تأمنوني ، وأنا أمين من في السماء ؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء . قال : فقام رجل غائر العينين ، مشرف الوجنتين ، ناشر الجبهة ، كث اللحية ، محلوق الرأس ، مشمر الإزار ، فقال : يا رسول الله ، اتق الله . فقال صلى الله عليه وسلم : ويلك ، أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ قال : فلما ولى الرجل ، قال خالد بن الوليد : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ؟ قال : لا ، لعله أن يكون يصلي . فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم ، قال : ثم نظر إليه وهو مقف ، فقال : إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وأظنه قال : لئن أدركتهم ، لأقتلنهم قتل ثمود .

      وعن معاوية بن الحكم في حديث طويل قال : وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية ، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها ، وأنا رجل من بني آدم ، آسف كما يأسفون ، لكن صككتها صكة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعظم ذلك علي ، قلت : يا رسول الله ، أفلا أعتقها ؟ قال : ائتني بها ، فأتيته بها ، فقال لها : أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم . قال : أعتقها ، فإنها مؤمنة . أخرجه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وغير واحد من الأئمة في تصانيفهم .

      وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من اشتكى منكم شيئا ، أو اشتكاه أخ له ، فليقل : ربنا الله الذي في السماء ، تقدس اسمك ، أمرك في السماء والأرض ، كما رحمتك في السماء ، فاجعل رحمتك في الأرض ، اغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أنت رب الطيبين ، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء [ ص: 156 ] من شفائك على هذا الوجع ، فيبرأ . رواه أبو داود ، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، الرحم شجنة من الرحمن ، فمن وصلها وصله الله ، ومن قطعها قطعه الله . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .

      وله عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي : يا حصين ، كم تعبد اليوم إلها ؟ قال أبي : سبعة ، ستة في الأرض ، وواحدا في السماء . قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء . قال : فلما أسلم حصين ، قال : يا رسول الله ، علمني الكلمتين اللتين وعدتني . فقال صلى الله عليه وسلم : قل : اللهم ألهمني رشدي ، وأعذني من شر نفسي . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وقد روي هذا الحديث عن [ ص: 157 ] عمران بن حصين من غير هذا الوجه .

      وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه ، إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها ، حتى يرضى عنها . رواه مسلم في صحيحه . وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كنا جلوسا ذات يوم بفناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ مرت امرأة من بناته ، فقال أبو سفيان : ما مثل محمد في بني هاشم إلا كمثل الريحانة في وسط الزبل . فسمعت ، فأبلغته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فصعد على منبره ، وقال : ما بال أقوال تبلغني عن أقوام ، إن الله خلق سماوات سبعا ، فاختار العليا فسكنها ، وأسكن سماواته من شاء من خلقه ، ثم اختار خلقه ، فاختار بني آدم ، فاختار العرب ، فاختار مضر ، فاختار قريشا ، فاختار بني هاشم ، فاختارني ، فلم أزل خيارا من خيار ، فمن أحب قريشا فبحبي أحبهم ، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم .

      قال الذهبي : هو حديث منكر ، رواه جماعة في كتب السنة ، وأخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل الصالح ، قالوا : اخرجي أيتها النفس المطمئنة ، كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان . فيقولون ذلك حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل . وذكر باقي [ ص: 158 ] الحديث .

      رواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير واللفظ له ، وفي الباب أحاديث تأتي إن شاء الله - تعالى - في ذكر الموت وفتنة القبر ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لما أسري بي ، مررت برائحة طيبة ، فقلت : يا جبريل ، ما هذه الرائحة الطيبة ؟ قال : هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها ، كانت تمشطها ، فوقع المشط من يدها ، فقالت : باسم الله تعالى ، فقالت ابنته : أبي ؟ قالت : لا ، ولكن ربي ورب أبيك الله ، فقالت : أخبر بذلك أبي ؟ قالت : نعم ، فأخبرته فدعا بها ، فقال : من ربك ؟ هل لك رب غيري ؟ قالت : ربي وربك الله الذي في السماء ، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ، ثم دعا بها وبولدها ، فألقاهما فيها . وساق الحديث بطوله ، رواه الدارمي وأبو يعلى الموصلي ، وقال الذهبي : هذا حديث حسن الإسناد .

      وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما ألقي إبراهيم - عليه السلام - في النار ، قال : اللهم إنك واحد في السماء ، وأنا واحد في الأرض أعبدك . رواه الدارمي في النقض ، وقال الذهبي : حسن الإسناد .

      وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله العبد ، نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، فينادي جبرائيل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض . رواه [ ص: 159 ] البخاري .

      وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله : إذا أراد الله أن يوحي بالأمر ، تكلم بالوحي ، أخذت السماوات منه رجفة ، أو قال : رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل ، فإذا سمع ذلك أهل السماوات ، صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل - عليه السلام - فيكلمه الله - تعالى - من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة ، كلما مر بسماء ، سأله ملائكتها ، ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول : قال الحق ، وهو العلي الكبير ، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل . رواه ابن جرير ، وابن خزيمة ، والطبراني ، وابن أبي حاتم واللفظ له .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية