الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : هذه اللام تفيد جعل أول الكلام سببا لآخره ، كما تقول : قمت لأضربك ، فإنه يفيد أن القيام سبب للضرب ، وههنا كذلك لأنه تعالى بين أن إخبار الله عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر ومثبتة في الكتاب الذي لا يتغير يوجب أن لا يشتد فرح الإنسان بما وقع ، وأن لا يشتد حزنه بما لم يقع ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام : " من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب " وتحقيق الكلام فيه أن على مذهب أهل السنة أن وقوع كل ما وقع واجب ، وعدم كل ما لم يقع واجب أيضا لأسباب أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الله تعالى علم وقوعه ، فلو لم يقع انقلب العلم جهلا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : أن الله أراد وقوعه ، فلو لم يقع انقلبت [ ص: 208 ] الإرادة تمنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : أنه تعلقت قدرة الله تعالى بإيقاعه ، فلو لم يقع لانقلبت تلك القدرة عجزا .

                                                                                                                                                                                                                                            رابعها : أن الله تعالى حكم بوقوعه بكلامه الذي هو صدق ، فلو لم يقع لانقلب ذلك الخبر الصدق كذبا ، فإذن هذا الذي وقع لو لم يقع لتغيرت هذه الصفات الأربعة من كمالها إلى النقص ، ومن قدمها إلى الحدوث ، ولما كان ذلك ممتنعا علمنا أنه لا دافع لذلك الوقوع ، وحينئذ يزول الغم والحزن عند ظهور هذه الخواطر ، وهانت عليه المحن والمصائب ، وأما المعتزلة فهب أنهم ينازعون في القدرة والإرادة ، ولكنهم يوافقون في العلم والخير ، وإذا كان الجبر لازما في هاتين الصفتين ، فأي فرق بين أن يلزم الجبر بسبب هاتين الصفتين وبين أن يلزم بسبب الصفات الأربع ، وأما الفلاسفة فالجبر مذهبهم ؛ وذلك لأنهم ربطوا حدوث الأفعال الإنسانية بالتصورات الذهنية والتخيلات الحيوانية ، ثم ربطوا تلك التصورات والتخيلات بالأدوار الفلكية التي لها مناهج مقدرة ويمتنع وقوع ما يخالفها . وأما الدهرية الذين لا يثبتون شيئا من المؤثرات فهم لا بد وأن يقولوا بأن حدوث الحوادث اتفاقي ، وإذا كان اتفاقيا لم يكن اختياريا ، فيكون الجبر لازما ، فظهر أنه لا مندوحة عن هذا لأحد من فرق العقلاء ، سواء أقروا به أو أنكروه ، فهذا بيان وجه استدلال أهل السنة بهذه الآية ، قالت المعتزلة : الآية دالة على صحة مذهبنا في كون العبد متمكنا مختارا ، وذلك من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ) يدل على أنه تعالى إنما أخبرهم بكون تلك المصائب مثبتة في الكتاب لأجل أن يحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا أنهم قادرون على تلك الأفعال لما بقي لهذه اللام فائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يريد أن يقع منهم الحزن والفرح ، وذلك خلاف قول المجبرة : إن الله تعالى أراد كل ذلك منهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( والله لا يحب كل مختال فخور ) وهذا يدل على أنه تعالى لا يريد ذلك لأن المحبة والإرادة سواء ، فهو خلاف قول المجبرة : إن كل واقع فهو مراد الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه تعالى أدخل لام التعليل على فعله بقوله : ( لكي لا ) وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالغرض ، وأقول : العاقل يتعجب جدا من كيفية تعلق هذه الآيات بالجبر والقدر وتعلق كلتا الطائفتين بأكثرها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : قرأ أبو عمرو وحده : " بما أتاكم " قصرا ، وقرأ الباقون : " آتاكم " ممدودا ، حجة أبي عمرو أن " أتاكم " معادل لقوله : ( فاتكم ) فكما أن الفعل للغائب في قوله : ( فاتكم ) كذلك يكون الفعل للآتي في قوله : ( بما آتاكم ) والعائد إلى الموصول في الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل ، وحجة الباقين أنه إذا مد كان ذلك منسوبا إلى الله تعالى وهو المعطي لذلك ، ويكون فاعل الفعل في : ( آتاكم ) ضميرا عائدا إلى اسم الله سبحانه وتعالى ، والهاء محذوفة من الصلة ، تقديره بما آتاكموه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال المبرد : ليس المراد من قوله : ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) نفي الأسى والفرح على الإطلاق ، بل معناه : لا تحزنوا حزنا يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ولا تعتدوا بثواب على فوات ما سلب منكم ، ولا تفرحوا فرحا شديدا يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( والله لا يحب كل مختال ) فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر ، وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم ، وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا للمصيبة صبرا وللخير شكرا . واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد أفعال العباد ، ( والجواب ) عنه أن كثيرا من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال : المحبة إرادة مخصوصة ، وهي إرادة الثواب ، فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية