الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 207 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا فرغ من الطواف رجع إلى منى ، وأقام بها أيام التشريق يرمي في كل يوم الجمرات الثلاث ، كل جمرة بسبع حصيات ، فيرمي الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف ، ويقف قدر سورة البقرة يدعو الله عز وجل ، ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف ويدعو الله تعالى كما ذكرنا ، ثم يرمي الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة ولا يقف عندها ، لما روت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة حتى صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى فأقام بها أيام التشريق الثلاث يرمي الجمار فرمى الجمرة الأولى إذا زالت الشمس بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم يقف فيدعو الله تعالى ثم يأتي الجمرة الثانية فيقول مثل ذلك ، ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها ، ولا يقف عندها . }

                                      ولا يجوز أن يرمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة إلا مرتبا يبدأ بالأولى ثم بالوسطى ثم بجمرة العقبة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى هكذا ، وقال { خذوا عني مناسككم } فإن نسي حصاة ولم يعلم من أي الجمار تركها جعلها من الجمرة الأولى ، ليسقط الفرض بيقين ولا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت { أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمار الثلاث حين تزول الشمس } فإن ترك الرمي في اليوم الثالث سقط الرمي ، لأنه فات أيام الرمي ، ويجب عليه دم لقوله صلى الله عليه وسلم { من ترك نسكا فعليه دم . } فإن ترك الرمي في اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو ترك الرمي في اليوم الثاني إلى الثالث فالمشهور من المذهب أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد ، فما ترك في الأول يرميه في اليوم الثاني ، وما تركه في اليوم الثاني يرميه في اليوم الثالث والدليل عليه أنه يجوز لرعاة الإبل أن يؤخروا الرمي إلى يوم بعده ، فلو لم يكن اليوم الثاني وقتا لرمي اليوم الأول لما جاز الرمي فيه ، وقال في الإملاء رمي كل يوم مؤقت بيومه ، والدليل عليه أنه رمي مشروع في يوم ، ففات بفواته كرمي اليوم الثالث ، فإن تدارك عليه رمي يومين أو ثلاثة أيام .

                                      ( فإن قلنا ) بالمشهور بدأ ورمى عن اليوم الأول ثم عن اليوم الثاني ثم عن اليوم الثالث ، فإن نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني ففيه وجهان [ ص: 208 ] أحدهما ) أنه لا يجزئه ، لأنه ترك الترتيب ( والثاني ) أنه يجزئه عن الأول ; لأن الرمي مستحق عن اليوم الأول ، فانصرف إليه كما لو طاف بنية الوداع ، وعليه طواف الفرض ( فإن قلنا ) بقوله في الإملاء : إن رمى كل يوم مؤقت بيومه وفات اليوم ولم يرم ففيه ثلاثة أقوال ، ( أحدها ) أن الرمي يسقط ، وينتقل إلى الدم كاليوم الأخير ( والثاني ) أنه يرمي ويريق دما للتأخير ، كما لو أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر ، فإنه يصوم ويفدي ( والثالث ) أنه يرمي ولا شيء عليه ، كما لو ترك الوقوف بالنهار فإنه يقف بالليل ولا دم عليه ، فعلى هذا إذا رمى عن اليوم الثاني قبل اليوم الأول جاز ، لأنه قضاء فلا يجب فيه الترتيب كالصلاة الفائتة .

                                      ( فأما ) إذا نسي رمي يوم النحر ففيه طريقان ( من ) أصحابنا من قال : هو كرمي أيام التشريق ، فيرمي رمي يوم النحر في أيام التشريق . وتكون أيام التشريق وقتا له ، وعلى قوله في الإملاء يكون على الأقوال الثلاثة ، ومن أصحابنا من قال : يسقط رمي يوم النحر قولا واحدا ; لأنه لما خالف رمي أيام التشريق في المقدار والمحل خالفه في الوقت .

                                      ومن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم لزمه دم لقوله صلى الله عليه وسلم { من ترك نسكا فعليه دم } فإن ترك ثلاث حصيات فعليه دم لأنه يقع اسم الجمع المطلق عليه فصار كما لو ترك الجميع وإن ترك حصاة ففيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) يجب عليه ثلث دم ( والثاني ) مد ( والثالث ) درهم ، وإن ترك حصاتين لزمه في أحد الأقوال ثلثا دم ، وفي الثاني مدان ، وفي الثالث درهمان . وإن ترك الرمي في أيام التشريق وقلنا بالقول المشهور : إن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد لزمه دم كاليوم الواحد ( فإن قلنا ) بقوله في الإملاء إن رمى كل يوم مؤقت بيومه لزمه ثلاثة دماء ، وإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق ( فإن قلنا ) إن رمي يوم النحر كرمي أيام التشريق لزمه على القول المشهور دم واحد ( وإن قلنا ) إنه ينفرد عن رمي أيام التشريق ( فإن قلنا ) إن رمي أيام التشريق كرمي اليوم الواحد لزمه دمان ( وإن قلنا ) إن رمي كل يوم مؤقت بيومه لزمه أربعة دماء ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عائشة رضي الله عنها رواه أبو داود والبيهقي ، ولكنه من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي عن عبد الرحمن بن [ ص: 209 ] القاسم عن أبيه عن عائشة بلفظه ، ولكن محمد بن إسحاق مدلس ، والمدلس إذا قال ( عن ) لا يحتج بروايته ، ويغني عنه حديث سالم عن ابن عمر { أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم ثم يستهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسط ، ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل ، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ، ويرفع يديه ويقوم طويلا ، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ، ولا يقف عندها ، ثم ينصرف فيقول : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله } رواه البخاري في صحيحه في ثلاثة أبواب متوالية ، ورواه مالك والبيهقي وغيرهما وفي روايتهم { فيقف عند الجمرتين الأوليين طويلا يكبر الله تعالى ويسبحه ، ويحمده ويدعو الله تعالى } .

                                      ( وأما ) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { رمى الجمار مرتبا } فهو صحيح مشهور من رواية ابن عمر التي ذكرتها الآن ، ومن غيرها ، وأما حديث { خذوا عني مناسككم } فصحيح رواه مسلم من رواية جابر ، وسبق بيانه في هذا الباب مرات ، وأما حديث عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام أيام التشريق يرمي الجمار إذا زالت الشمس } فرواه أبو داود بإسناده الذي فيه محمد بن إسحاق وقد بينته الآن ، ويغني عنه حديث جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة أول يوم ضحى ثم لم يرم بعد ذلك حتى زالت الشمس } رواه مسلم . وعن ابن عمر قال " كنا نتحين ، فإذا زالت الشمس رمينا " رواه البخاري . وأما حديث { من ترك نسكا فعليه دم } فسبق بيانه .

                                      ( وأما ألفاظ الفصل ) فقوله : مسجد الخيف هو - بفتح الخاء المعجمة وإسكان المثناة تحت - قال أهل اللغة : الخيف ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء ، وبه يسمى مسجد الخيف ، وهو مسجد [ ص: 210 ] عظيم واسع جدا فيه عشرون بابا . وذكر الأزرقي جملا تتعلق به ( قوله ) رمي مشروع في يوم احتراز من رجم الزاني .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل ( إحداها ) قال الشافعي والأصحاب : إذا فرغ الحاج من طواف الإفاضة والسعي إن كان لم يسع بعد طواف القدوم ، فالسنة أن يرجع إلى منى عقب فراغه ، فإذا رجع صلى بها الظهر وحضر الخطبة ثم يقيم في منى لرمي أيام التشريق ومبيت لياليها ، وقد سبق أن اليوم الأول من أيام التشريق يسمى يوم القر - بفتح القاف وتشديد الراء - لأنهم قارون بمنى ، واليوم الثاني يسمى النفر الأول ، واليوم الثالث يوم النفر الثاني . ومجموع حصى الرمي سبعون حصاة ، سبع منها لجمرة العقبة يوم النحر والباقي لرمي أيام التشريق ، فيرمي كل يوم الجمرات الثلاث ، كل جمرة سبع حصيات كما سبق وصفه في رمي جمرة العقبة ، فيأخذ كل يوم إحدى وعشرين حصاة ، فيأتي الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف ، وهي أولهن من جهة عرفات ، وهي في نفس الطريق الجادة ، فيأتيها من أسفل منها فيصعد إليها ويعلوها حتى يكون ما عن يساره أقل مما عن يمينه ، ويستقبل الكعبة ثم يرمي الجمرة بسبع حصيات واحدة واحدة ، يكبر عقب كل حصاة كما سبق في رمي جمرة العقبة يوم النحر ، ثم يتقدم عنها ، وينحرف قليلا ويجعلها في قفاه ، ويقف في موضع لا يصيبه المتطاير من الحصى الذي يرمى ، فيستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو مع حضور القلب وخضوع الجوارح ، ويمكث كذلك قدر سورة البقرة ، ثم يأتي الجمرة الثانية وهي الوسطى ، ويصنع فيها كما صنع في الأولى ، ويقف للدعاء كما وقف في الأولى إلا أنه لا يتقدم عن يسارها بخلاف ما فعل في الأولى ، لأنه لا يمكنه ذلك فيها ، بل يتركها عن يمينه ويقف في بطن المسيل منقطعا عن أن يصيبه الحصى . ثم يأتي الجمرة [ ص: 211 ] الثالثة وهي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر فيرميها من بطن الوادي ولا يقف عندها للذكر والدعاء . وهذه الكيفية هي المسنونة والواجب منها أصل الرمي بصفته السابقة في رمي جمرة العقبة ، وهو أن يرمي بما يسمى حجرا ويسمى رميا . وأما الدعاء والذكر وغيرهما مما زاد على أصل الرمي فمستحب لا شيء عليه في تركه لكن فاتته الفضيلة . ويرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق كما رمى في الأول ، ويرمي في الثالث كذلك إن لم ينفر في اليوم الثاني . والله أعلم .

                                      ودليل استحباب الوقوف للدعاء والذكر عند الجمرتين الأوليين مذكور في الكتاب ( وأما ) كونه قدر سورة البقرة ، فرواه البيهقي من فعل ابن عمر والله تعالى أعلم .

                                      ( والثانية ) يستحب أن يغتسل كل يوم للرمي .



                                      ( الثالثة ) لا يجوز الرمي في هذه الأيام إلا بعد زوال الشمس ويبقى وقتها إلى غروبها ، وفيه وجه مشهور أنه يبقى إلى الفجر الثاني من تلك الليلة ( والصحيح هذا ) فيما سوى اليوم الآخر . وأما اليوم الآخر فيفوت رميه بغروب شمسه بلا خلاف . وكذا جميع الرمي يفوت بغروب شمس الثالث من التشريق لفوات زمن الرمي ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : ويستحب إذا زالت الشمس أن يقدم الرمي على صلاة الظهر ثم يرجع فيصلي الظهر ، نص عليه الشافعي رحمه الله . واتفق عليه أصحابه ، ويدل عليه حديث ابن عمر السابق قريبا



                                      ( الرابعة ) العدد شرط في الرمي ، فيرمي في كل يوم إحدى وعشرين [ ص: 212 ] حصاة إلى كل جمرة سبع حصيات كما ذكرنا ، وتكون كل حصاة برمية مستقلة ، كما سبق في جمرة العقبة .

                                      ( الخامسة ) يشترط في الترتيب بين الجمرات ، فيبدأ بالجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ولا خلاف في اشتراطه ، فلو ترك حصاة من الأولى أو جهل فلم يدر من أين تركها ؟ جعلها من الأولى ، فيلزمه أن يرمي إليها حصاة ثم يرمي الجمرتين الأخريين ليسقط الفرض بيقين .

                                      ( السادسة ) ينبغي أن يوالي بين الحصيات في الجمرة الواحدة وأن يوالي بين الجمرات ، وهذه الموالاة سنة ليست بشرط على المذهب ، وبه قطع الأكثرون وقيل شرط ، وقد سبق بيانه في رمي جمرة العقبة .



                                      ( السابعة ) إذا ترك شيئا من رمي يوم القر عمدا أو سهوا ، هل يتداركه في اليوم الثاني أو الثالث ؟ أو ترك رمي اليوم الثاني أو رمي اليومين الأولين ، هل يتدارك في الثالث منه ؟ قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( الصحيح ) عند الأصحاب يتدارك ( والثاني ) نصه في الإملاء لا يتدارك ( فإن قلنا ) لا يتدارك في بقية الأيام فهل يتدارك في الليلة الواقعة بعده من ليالي التشريق ؟ ( إذا قلنا ) بالأصح إن وقته لا يمتد في تلك الليلة ، فيه وجهان حكاهما المتولي وآخرون ( وإن قلنا ) بالتدارك فتدارك فهل هو أداء أم قضاء ؟ به قولان ( أصحهما ) أداء كما في حق أهل السقاية والرعاة .

                                      ( فإن قلنا ) أداء فجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد ، فكل يوم للقدر المأمور به وقت اختيار ، كأوقات اختيار الصلوات ، ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال . ونقل إمام الحرمين أن على هذا القول لا يمتنع تقديم رمي يوم إلى يوم . قال الرافعي : لكن يجوز أن يقال : إن وقته يتسع من جهة الآخر دون الأول ، ولا يجوز التقديم على كلام [ ص: 213 ] الرافعي وهو كما قال ، فالصواب الجزم بمنع التقديم ، وبه قطع الجمهور تصريحا ومفهوما . وإذا قلنا إنه قضاء فتوزيع الأقدار المعينة على الأيام مستحق ولا سبيل إلى تقديم رمي يوم إلى يوم ولا تقديمه على الزوال



                                      وهل يجوز بالليل ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) الجواز لأن القضاء لا يتأقت ( والثاني ) لا يجوز لأن الرمي عبادة النهار كالصوم ، وهل يجب الترتيب بين الرمي المتروك ورمي يوم التدارك ؟ فيه قولان ، ومنهم من حكاهما وجهين ( أصحهما ) نعم كالترتيب في المكان ، وهما مبنيان على أن التدارك قضاء أم أداء ( إن قلنا ) أداء وجب الترتيب وإلا فلا ، فإن لم نوجب الترتيب فهل يجب على أهل العذر كالرعاة وأهل السقاية ؟ فيه وجهان . قال المتولي : نظيره إن فاتته الظهر لا يلزمه الترتيب بينها وبين العصر ، ولو أخرها للجمع فوجهان ، ولو رمى إلى الجمرات كلها عن يوم قبل أن يرمي إليها عن أمسه أجزأه إن لم نوجب الترتيب ، فإن أوجبناه فوجهان ( أصحهما ) يجزئه ويقع عن القضاء ( والثاني ) لا يجزئه أصلا . قال الإمام ولو صرف الرمي إلى غير النسك بأن رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف ، والأصح الانصراف ، فإن لم ينصرف وقع عن أمسه ولغا قصده ، وإن انصرف - فإن لم ينصرف وقع عن أمسه ولغا قصده ، وإن انصرف - فإن شرطنا الترتيب - لم يجزه أصلا ، وإن لم نشترط أجزأه عن يومه . ولو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة حصاة سبعا عن يومه وسبعا عن أمسه جاز إن لم نشترط الترتيب ، وإن شرطناه لم يجز ، وهو نصه في المختصر . هذا كله في رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق .



                                      أما إذا ترك رمي يوم النحر ففي تداركه في أيام التشريق طريقان ( أصحهما ) أنه على القولين ( والثاني ) القطع بعدم التدارك للمغايرة بين الرميين قدرا [ ص: 214 ] ووقتا وحكما . فإن رمي يوم النحر يؤثر في التحلل بخلاف أيام التشريق .



                                      ( فرع ) لو ترك رمي بعض الأيام وقلنا يتدارك فتدارك فلا دم على المذهب وبه قطع الجمهور ، وفيه قول ضعيف حكاه المصنف والأصحاب أنه يجب دم مع التدارك كمن أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر ، فإنه يقضيه ويفدي . ولو نفر يوم النحر أو يوم النفر قبل أن يرمي ثم عاد ورمى قبل الغروب أجزأه ولا دم ، ولو فرض ذلك يوم النفر الأول فكذا على الأصح ، وفيه وجه ضعيف أنه يلزمه الدم ، لأن النفر في هذا اليوم جائز في الجملة ، فإذا نفر فيه خرج عن الحج فلا يسقط الدم بعوده ، وحيث قلنا : لا يتدارك أو قلنا به فلم يتدارك وجب الدم ، وكم قدره ؟ فيه صور . فإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق - والصورة فيمن توجه عليه رمي اليوم الثالث من التشريق - ففيما يلزمه ثلاثة أقوال .

                                      ( أحدها ) دم ( والثاني ) دمان ( والثالث ) أربعة دماء ، ودليلها في الكتاب وهذا الثالث أظهرها عند البغوي قال الرافعي : لكن مقتضى كلام الجمهور ترجيح الأول . وحكى الدارمي عن حكاية ابن القطان وجها أنه يجب عشرة دماء يجعل كل جمرة مفردة ، وهذا شاذ باطل . ولو ترك يوم النحر أو رمي يوم من التشريق وجب دم .



                                      وإن ترك رمي بعض التشريق فطريقان ( أحدهما ) الجمرات الثلاث كالشعرات الثلاث فلا يكمل الدم في بعضها ، بل إن ترك جمرة ففيه الأقوال الثلاثة المشهورة فيمن حلق شعرة ( أظهرها ) مد ( والثاني ) درهم ( والثالث ) ثلث دم . وإن ترك جمرتين فعلى هذا القياس . وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة قال صاحب التقريب إن قلنا : في الجمرة ثلث دم ففي الحصاة جزء من أحد وعشرين جزءا من دم ( وإن قلنا ) في الجمرة مد أو درهم قال الرافعي : فيحتمل أن نوجب سبع مد أو سبع درهم ، ويحتمل أن لا نبعضهما .

                                      [ ص: 215 ] والطريق الثاني ) تكميل الدم في وظيفة الجمرة الواحدة ، كما يكمل في جمرة النحر في الحصاة والحصاتين الأقوال الثلاثة ، هذا في الحصاة والحصاتين من آخر أيام التشريق . فأما إذا تركها من الجمرة الآخرة يوم القر أو النفر الأول ولم ينفر ( فإن قلنا ) لا يجب الترتيب بين التدارك ورمي الوقت صح رميه . لكن ترك حصاة ففيه الخلاف وإن أوجبنا الترتيب ففيه الخلاف السابق في أن الرمي بنية اليوم هل يقع عن الماضي ؟ ( إن قلنا ) نعم تم المتروك بما أتى به في اليوم الذي بعده ، لكن يكون تاركا للجمرة الأولى والثانية في ذلك اليوم فعليه دم ( وإن قلنا ) لا ، كان تاركا رمي حصاة ووظيفة يوم ، فعليه دم إن لم نفرد كل يوم بدم ، وإن أفردنا فعليه لوظيفة اليوم دم ، وفيما يجب لترك الحصاة الخلاف ، وإن تركها من إحدى الجمرتين الأوليين من أي يوم كان فعليه دم ، لأن ما بعدها غير صحيح لوجوب الترتيب في المكان ، هذا كله إذا ترك بعض يوم من التشريق ، فإن ترك بعض رمي النحر فقد ألحقه البغوي بما إذا ترك من الجمرة الآخرة من اليوم الآخر . وقال المتولي : يلزمه دم ولو ترك حصاة فقط لأنها من أسباب التحلل ، فإذا ترك شيئا منها لم يتحلل إلا ببدل كامل . وحكى إمام الحرمين وجها غريبا ضعيفا أن الدم يكمل في حصاة واحدة مطلقا وحكاه الدارمي ، وهو شاذ متروك ، والله أعلم .

                                      قال المتولي : لو ترك ثلاث حصيات من جملة الأيام لم يعلم موضعها أخذ بالأسوأ ، وهو أنه ترك حصاة من يوم النحر وحصاة من الجمرة الأولى يوم القر وحصاة من الجمرة الثانية يوم النفر الأول ، فإن لم يحسب [ ص: 216 ] ما يرميه بنية وظيفة اليوم عن الفائت فالحاصل ست حصيات من رمي يوم النحر ، سواء شرطنا الترتيب بين التدارك ورمي الوقت أم لا ، وإن حسبناه فالحاصل رمي يوم النحر وأحد أيام التشريق لا غير ، سواء شرطنا الترتيب أم لا ، ودليله يعرف مما سبق من الأصول والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : يستحب أن يكون رميه في اليومين الأولين من التشريق ماشيا ، وأن يكون راكبا في اليوم الآخر فيرمي بعد الزوال ، وقبل صلاة الظهر راكبا ، وينفر عقب الرمي ، كما أنه يرمي يوم النحر راكبا ثم ينزل ، هكذا قاله جماهير الأصحاب في كل الطرق ، ونص عليه الشافعي في الإملاء . وشذ المتولي عن الأصحاب فحكى عن نص الشافعي في الإملاء ما ذكرناه ، ثم قال والصحيح أنه يرمي ماشيا في أيام التشريق الثلاثة ، لحديث عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر { أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيا ذاهبا وراجعا ، ويخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك } رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما ، وهو حديث ضعيف ، لأن عبد الله العمري ضعيف عند أهل الحديث ، وإنما الصحيح من هذا رواية ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليه ذاهبا وراجعا } رواه الترمذي بإسناد على شرط البخاري ومسلم ، وقال : هذا حديث حسن صحيح والله أعلم .

                                      ( فرع ) لا يفتقر الرمي إلى نية على المذهب ، وفيه وجه حكاه الدارمي والقاضي أبو الطيب وغيرهما ، وقد سبق في فصل طواف القدوم عند ذكر نية الطواف ثلاثة أوجه في النية في جميع أعمال الحج والله أعلم .



                                      ( فرع ) في الحكمة في الرمي ، قال العلماء : أصل العبادة الطاعة وكل عبادة فلها معنى قطعا لأن الشرع لا يأمر بالعبث ثم معنى العبادة قد [ ص: 217 ] يفهمه المكلف وقد لا يفهمه فالحكمة في الصلاة التواضع والخضوع وإظهار الافتقار إلى الله تعالى ، والحكمة في الصوم كسر النفس وقمع الشهوات ، والحكمة في الزكاة مواساة المحتاج ، وفي الحج إقبال العبد أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيت فضله الله ، كإقبال العبد إلى مولاه ذليلا ومن العبادات التي لا يفهم معناها السعي والرمي فكلف العبد بهما ليتم انقياده ، فإن هذا النوع لا حظ للنفس فيه ولا للعقل به ، ولا يحمل عليه إلا مجرد امتثال الأمر وكمال الانقياد ، فهذه إشارة مختصرة تعرف بها الحكمة في جميع العبادات ، والله أعلم .

                                      وقد سبق في أواخر فصل طواف القدوم في المسألة الخامسة حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنما جعل الطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، لإقامة ذكر الله } " وروينا [ ص: 218 ] في سنن البيهقي وغيره مرفوعا وموقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما " أن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لما أتى المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له في الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ، قال ابن عباس : الشيطان ترجمون ومكة بينكم تبتغون "




                                      الخدمات العلمية