الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما نهى عن ذلك البذل للسفهاء؛ أيتاما كانوا؛ أو غيرهم؛ بين أنه ليس دائما؛ بل ما دام السفه قائما؛ فمست الحاجة إلى التعريف بمن يعطى؛ ومن يمنع؛ وكيف يفعل عند الدفع؛ ولما كان السفه أمرا [ ص: 197 ] باطنا لا يعرف إلا بالتصرف؛ ولا سيما في المال; بدأ - سبحانه - بتعليم ما يتوصلون به إلى معرفته؛ فقال - مصرحا بالأيتام؛ اهتماما بأمرهم -: وابتلوا اليتامى ؛ أي: اختبروهم في أمر الرشد في الدين؛ والمال؛ في مدة مراهقتهم؛ واجعلوا ذلك دأبكم؛ حتى إذا بلغوا النكاح ؛ أي: وقت الحاجة إليه؛ بالاحتلام؛ أو السن؛ فإن آنستم ؛ أي: علمتم علما أنتم في عظيم تيقنه؛ كأنكم تبصرونه على وجه تحبونه؛ وتطيب أنفسكم به؛ منهم ؛ أي: عند بلوغه؛ رشدا ؛ أي: بذلك التصرف؛ ونكره لأن وجود كمال الرشد في أحد يعز وقوعه؛ فادفعوا إليهم أموالهم ؛ أي: لزوال الحاجة إلى الحجر؛ بخوف التبذير؛ وأضافها إليهم بعد إضافتها أولا إلى المعطين؛ إشارة إلى أنه لا يستحقها إلا من يحسن التصرف فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإنسان مجبولا على نقائص؛ منها الطمع وعدم الشبع؛ لا سيما إذا خالط؛ لا سيما إن حصل له إذن ما; أدبه - سبحانه - بقوله: ولا تأكلوها ؛ أي: بعلة استحقاقكم لذلك؛ بالعمل فيها إسرافا ؛ أي: مسرفين؛ بالخروج عن القصد في التصرف؛ ووضع الشيء في غير موضعه؛ وإغفال العدل؛ والشفقة؛ وبدارا ؛ أي: مبادرين؛ أن يكبروا ؛ أي: فيأخذوها منكم عند كبرهم؛ فيفوتكم الانتفاع بها؛ وكأنه عطف [ ص: 198 ] بالواو الدالة على تمكن الوصف؛ وتمامه؛ إشارة إلى عدم المؤاخذة بما يعجز عنه الإنسان المجبول على النقصان؛ مما يجرى في الأفعال مجرى الوسوسة في الأقوال؛ "ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"؛ ولما أشعر النهي عن أكل الكل؛ بأن لهم في الأكل في الجملة علة مقبولة؛ أفصح به في قوله: ومن كان ؛ أي: منكم؛ أيها الأولياء؛ غنيا فليستعفف ؛ أي: يطلب العفة؛ ويوجدها؛ ويظهرها؛ عن الأكل منها جملة؛ فيعف عنه بما بسط الله له من رزقه؛ ومن كان فقيرا ؛ وهو يتعهد مال اليتيم لإصلاحه؛ ولما كان يخشى من امتناعه من الأكل منه التفريط فيه؛ بالاشتغال بما يهمه في نفسه؛ أخرج الكلام في صيغة الأمر؛ فقال - معبرا بالأكل؛ لأنه معظم المقصود -: فليأكل بالمعروف ؛ أي: بقدر أجرة سعيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ذلك ربما أفهم الأمان إلى الرشد؛ بكل اعتبار؛ أمر بالحزم - كما في الطبراني الأوسط؛ عن أنس: "احترسوا من الناس بسوء الظن" - فقال: فإذا دفعتم إليهم ؛ أي: اليتامى؛ أموالهم ؛ أي: التي كانت تحت أيديكم؛ لعجزهم عن حفظها؛ فأشهدوا عليهم [ ص: 199 ] ؛ أي: احتياطا؛ لأن الأحوال تتبدل؛ والرشد يتفاوت؛ فالإشهاد أقطع للشر؛ وأنفع في كل أمر؛ والأمر بالإشهاد أزجر للولي عن الخيانة؛ لأن من عرف أنه لا يقبل عند الخصام إلا ببينة؛ عف غاية العفة؛ واحترز غاية الاحتراز.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الأموال مظنة لميل النفوس؛ وكان الحب للشيء يعمي ويصم; ختم الآية بقوله: وكفى بالله ؛ أي: الذي له الحكمة البالغة؛ والقدرة الباهرة؛ والعظمة التي لا مثل لها؛ والباء في مثل هذا تأكيد؛ لأن ما قرنت به هو الفاعل؛ حقيقة؛ لا مجازا؛ كما إذا أمرنا بالفعل؛ مثلا؛ حسيبا ؛ أي: محاسبا؛ بليغا في الحساب؛ فهو أبلغ؛ تحذيرا لهم؛ وللأيتام؛ من الخيانة؛ والتعدي؛ ومد العين إلى حق الغير.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية