الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ( قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ( 135 ) وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( 136 ) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( 137 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      ( قل ) يا محمد ( يا قوم اعملوا على مكانتكم ) قرأ أبو بكر عن عاصم ( مكاناتكم ) بالجمع حيث كان أي : على تمكنكم ، قال عطاء : على حالاتكم التي أنتم عليها . قال الزجاج : اعملوا على ما أنتم عليه . يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة : على مكانتك يا فلان ، أي : اثبت على ما أنت [ ص: 192 ] عليه ، وهذا أمر وعيد على المبالغة يقول : قل لهم : اعملوا على ما أنتم عاملون ، ( إني عامل ) ما أمرني به ربي - عز وجل - ، ( فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ) أي : الجنة ، قرأ حمزة والكسائي : يكون بالياء هنا وفي القصص ، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث العاقبة ، ( إنه لا يفلح الظالمون ) قال ابن عباس : معناه لا يسعد من كفر بي وأشرك . قال الضحاك : لا يفوز .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله - عز وجل - : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) الآية ، كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا ، وللأوثان نصيبا فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين ، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها ، فإن سقط شيء مما جعلوه لله تعالى في نصيب الأوثان تركوه وقالوا : إن الله غني عن هذا ، وإن سقط شيء من نصيب الأصنام فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان ، وقالوا : إنها محتاجة ، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به ، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوا للأصنام جبروه بما جعلوه لله ، فذلك قوله تعالى ( وجعلوا لله مما ذرأ ) خلق ( من الحرث والأنعام نصيبا ) وفيه اختصار مجازه : وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا .

                                                                                                                                                                                                                                      ( فقالوا هذا لله بزعمهم ) قرأ الكسائي ( بزعمهم ) بضم الزاي ، والباقون بفتحها ، وهما لغتان ، وهو القول من غير حقيقة ، ( وهذا لشركائنا ) يعني الأوثان ، ( فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) ومعناه : ما قلنا أنهم كانوا يتمون ما جعلوه للأوثان مما جعلوه لله ، ولا يتمون ما جعلوه لله مما جعلوه للأوثان . وقال قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جزءوا لله وأكلوا منه ووفروا ما جزءوا لشركائهم ولم يأكلوا منه شيئا ( ساء ما يحكمون ) أي : بئس ما يصنعون .

                                                                                                                                                                                                                                      ( وكذلك زين لكثير من المشركين ) أي : كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين لكثير من المشركين ، ( قتل أولادهم شركاؤهم ) قال مجاهد شركاؤهم ، أي : شياطينهم زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة ، سميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله وأضيف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي : شركاؤهم : سدنة آلهتهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل الأولاد ، فكان الرجل [ ص: 193 ] منهم يحلف لئن ولد له كذا غلام لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر : " زين " بضم الزاي وكسر الياء ، " قتل " رفع " أولادهم " نصب ، " شركائهم " بالخفض على التقديم ، كأنه قال : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم ، فصل بين الفعل وفاعله بالمفعول به ، وهم الأولاد ، كما قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      فزججته متمكنا زج القلوص أبي مزاده



                                                                                                                                                                                                                                      أي : زج أبي مزادة القلوص ، فأضيف الفعل وهو القتل إلى الشركاء ، وإن لم يتولوا ذلك لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه ، فكأنهم فعلوه . قوله - عز وجل - ( ليردوهم ) ليهلكوهم ، ( وليلبسوا عليهم ) ليخلطوا عليهم ، ( دينهم ) قال ابن عباس : ليدخلوا عليهم الشك في دينهم ، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشيطان ، ( ولو شاء الله ما فعلوه ) أي : لو شاء الله لعصمهم حتى ما فعلوا ذلك من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد ، ( فذرهم ) يا محمد ، ( وما يفترون ) يختلقون من الكذب ، فإن الله تعالى لهم بالمرصاد .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية