الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 149 ] باب المرأة لا تلي عقدة النكاح

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله : " قال بعض الناس زوجت عائشة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر ، وهو غائب بالشام ، فقال عبد الرحمن : أمثلي يفتات عليه في بناته ؟ ( قال ) فهذا يدل على أنها زوجتها بغير أمره ، قيل : فكيف يكون أن عبد الرحمن وكل عائشة لفضل نظرها إن حدث حدث أو رأت في مغيبه لابنته حظا أن تزوجها احتياطا ، ولم ير أنها تأمر بتزويجها إلا بعد مؤامرته ، ولكن تواطئ وتكتب إليه ، فلما فعلت قال : هذا وإن كنت قد فوضت إليك ، فقد كان ينبغي أن لا تفتاتي علي ، وقد يجوز أن يقول زوجي ، أي وكلي من يزوج ، فوكلت قال : فليس لها هذا في الخبر ، قيل : لا ، ولكن لا يشبه غيره : لأنها روت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل النكاح بغير ولي باطلا ، أو كان يجوز لها أن تزوج بكرا وأبوها غائب دون إخوتها أو السلطان ( قال المزني رحمه الله ) معنى تأويله فيما روت عائشة عندي غلط : وذلك أنه لا يجوز عنده إنكاح المرأة ووكيلها مثلها ، فكيف يعقل بأن توكل ، وهي عنده لا يجوز إنكاحها ، ولو قال إنه أمر من ينفذ رأي عائشة فأمرته فأنكح خرج كلامه صحيحا : لأن التوكيل للأب حينئذ ، والطاعة لعائشة ، فيصح وجه الخبر على تأويله الذي يجوز عندي ، لا أن الوكيل وكيل لعائشة - رضي الله عنها - ولكنه وكيل له فهذا تأويله " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وقد مضى الكلام في أن النكاح لا يصح إلا بولي ذكر ، وأن المرأة لا يجوز أن تعقد نكاح نفسها ، فكذلك لا يجوز أن تلي نكاح غيرها لا بولاية ولا بوكالة ، ولا يصح منها فيه بذل ولا قبول .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يجوز أن يتولاه لنفسها ولغيرها نيابة ووكالة تكون فيه باذلة أو قابلة ، فأما نكاح نفسها قد مضى الكلام معه فيه ، وأما نكاح غيرها نيابة ووكالة فاستدل على جواز أن تتوكل فيه وتباشر غيره بما روي أن عائشة زوجت بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان غائبا بالشام بمنذر بن الزبير ، فلما قدم ، قال : أمثلي يفتات عليه في بناته : وأمضى النكاح ، قال : ولأنه عقد معاوضة فجاز أن تتولاه المرأة كالبيع ، ولأنه عقد يستباح به البضع ، فصح أن تباشره المرأة قياسا على شراء الأمة ، ولأنه عقد على منفعة ، فجاز اشتراك الرجال والنساء فيه كالإجارة .

                                                                                                                                            [ ص: 150 ] ودليلنا رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ولا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها وهذا نص .

                                                                                                                                            وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه : أن عائشة كانت إذا هوى فتى من بني أخيها فتاة من بنات أخيها أرسلت سرا ، وقعدت من ورائه ، وتشهدت حتى إذا لم يبق إلا النكاح ، قالت : يا فلان انكح وليتك فلانة ، فإن النساء لا ينكحن . وهذا أمر منتشر في الصحابة لا يعرف فيه مخالف ، ولأن تصرف المرأة في حق نفسها أقوى من تصرفها في حق غيرها ، وقد دللنا على أنه لا ولاية لها في حق نفسها ، فأولى أن لا يكون لها ولاية في حق غيرها ، ولأن كل عقد لم يجز أن تعقده المرأة لنفسها لم يجز أن تعقده لغيرها كعقد الإمامة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن حديث عائشة ، فهو أنه لا يمكن استعماله على ظاهره من أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنها لو زوجتها بولاية النسب لكان بالمنكوحة من هو أحق بالولاية منها من إخوة وأعمام : لأن عبد الرحمن قد كان له إخوة وأولادهم أحق بنكاحها من عائشة التي هي أخته وعمة المنكوحة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو زوجتها بوكالة أبيها عبد الرحمن لما افتاتت عليه في بناته .

                                                                                                                                            والثالث : أنها هي الراوية عن النبي صلى الله عليه وسلم : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل وهي لا تخالف ما روته .

                                                                                                                                            الرابع : أنها كانت إذا خطبت في المناكح ، قالت : " يا فلان انكح وليتك ، فإن النساء لا ينكحن " .

                                                                                                                                            وإذا لم يمكن حمله على ظاهره من هذه الوجوه الأربع وجب حمله على ما يمكن فيحمل على أحد ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن عبد الرحمن يجوز أن يكون قد وكل عن نفسه من يقوم بتزويج بنته وأمره أن يرجع إلى رأي عائشة في اختيار من يزوجها به ، فأشارت عليه عائشة بتزويجها منذر بن الزبير .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلم أنكر وقد وكل .

                                                                                                                                            قيل : لأن منذرا قد كان خطب إليه فكرهه لعجب ذكره فيه ، فأحبت عائشة مع ما عرفته من فضل منذر أنه يصل الرحم ، وتزوج بنت أخيها بابن أختها : لأن منذر بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يجوز أن تكون عائشة حين اختارت منذرا سألت السلطان أن يزوجها لأن عبد الرحمن بغيبته لا تزول ولايته وينوب السلطان عنه عندنا وعند أبي حنيفة ، وينوب عنه من بعده من الأولياء وعند مالك ، فكره عبد الرحمن إن لم يستأذن فيه ويطالع به ويكون إضافة [ ص: 151 ] العقد إلى عائشة ، وإن لم تكن العاقدة لمكان اختيارها وسفارتها ، كما يضاف العقد إلى السفير بين الزوجين ، فيقال فلانة الدلالة قد زوجت فلانا بفلانة ، وإن لم تكن قد باشرت العقد وتولته .

                                                                                                                                            والثالث : أنه يجوز أن يكون عبد الرحمن وكل عائشة في أن توكل عنه من يزوج بنته ، فوكلت عائشة عن عبد الرحمن حين استقر رأيها على تزويج منذر من زوجها عنه ، فكان الوكيل المتولي للعقد وكيلا لعبد الرحمن لا لعائشة كما توهم المزني فقال : إذا لم يكن لها أن تزوج فوكيلها بمثابتها لا يجوز له أن يزوج ، وهي لم توكل عن نفسها ، وإنما وكلت عن أخيها ، وإنما يجوز أن تكون المرأة وكيلا في توكيل من يزوج عن الموكل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الأقيسة الثلاثة في البيع والإجارة وشراء الأمة ، فهو أنها عقود لا تفتقر إلى ولاية ، فجاز أن تتولاها المرأة بخلاف النكاح ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية