الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 438 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى ( وإن كان على رأسه عمامة ولم يرد نزعها مسح بناصيته ، والمستحب أن يتم المسح بالعمامة لما روى المغيرة رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته } ، فإن اقتصر على مسح العمامة لم يجزئه لأنها ليست برأس ، ولأنه عضو لا يلحق المشقة في إيصال الماء إليه فلا يجوز المسح على حائل منفصل عنه كالوجه واليد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث المغيرة رواه مسلم في صحيحه ، وتقدم بيان حال المغيرة في أول هذا الباب ، وقول المصنف : ( لأنه عضو لا يلحق المشقة في إيصال الماء إليه ) فيه احتراز من الجبيرة على كسر . وقوله : ( حائل منفصل ) احتراز من مسح شعر الرأس ، والعضو بضم العين وكسرها لغتان .

                                      ( فأما حكم المسألة ) : فقال أصحابنا : إذا كان عليه عمامة ولم يرد نزعها لعذر ولغير عذر مسح الناصية كلها ، ويستحب أن يتم المسح على العمامة سواء لبسها على طهارة أو حدث ، ولو كان على رأسه قلنسوة ولم يرد نزعها فهي كالعمامة فيمسح بناصيته ، ويستحب أن يتم المسح عليها ، صرح به أبو العباس الجرجاني في التحرير ، وهكذا حكم ما على رأس المرأة ، وأما إذا اقتصر على مسح العمامة ولم يمسح شيئا من رأسه فلا يجزيه بلا خلاف عندنا ، وهو مذهب أكثر العلماء ، كذا حكاه الخطابي والماوردي عن أكثر العلماء ، وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير والشعبي والنخعي والقاسم ومالك وأصحاب الرأي ، وحكاه غيره عن علي بن أبي طالب وابن عمر وجابر رضي الله عنهم ، وقالت طائفة : يجوز الاقتصار على العمامة قاله سفيان الثوري والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق ومحمد بن جرير وداود ، قال ابن المنذر : ممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق وبه قال عمر وأنس بن مالك وأبو أمامة ، وروي عن سعد بن أبي وقاص وأبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز ومكحول والحسن وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، ثم شرط بعض هؤلاء لبسها على طهارة ، وشرط بعضهم كونها محنكة أي : بعضها تحت الحنك ، ولم يشترط بعضهم شيئا من ذلك . [ ص: 439 ] واحتج لمن جوز ذلك بحديث بلال رضي الله عنه قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار } رواه مسلم .

                                      وعن عمرو بن أمية قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه } رواه البخاري . وعن ثوبان قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين } رواه أبو داود بإسناد صحيح ، والعصائب العمائم والتساخين بفتح التاء المثناة فوق وبالسين المهملة والخاء المعجمة وهي الخفاف وعن بلال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فيقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه } رواه أبو داود بإسناد جيد ، والموق بضم الميم خف قصير ، قالوا ولأنه عضو سقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائل دونه كالرجل في الخف . واحتج أصحابنا بقوله تعالى - : { وامسحوا برءوسكم } والعمامة ليست برأس ، ولأنه عضو طهارته المسح فلم يجز المسح على حائل دونه كالوجه واليد في التيمم فإنه مجمع عليه ، ولأنه عضو لا تلحق المشقة في إيصال الماء إليه غالبا فلم يجز المسح على حائل منفصل عنه كاليد في القفاز ، والوجه في البرقع والنقاب . وأما الجواب عن احتجاجهم بالأحاديث فهو ما أجاب به الخطابي والبيهقي وغيرهما من المحدثين وسائر أصحابنا في كتب الفقه أنه وقع فيها اختصار ، والمراد مسح الناصية والعمامة ليكمل سنة الاستيعاب ، يدل على صحة هذا التأويل أنه صرح به في حديث المغيرة كما سبق بيانه ، وكذا جاء في حديث بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم { مسح على الخفين وبناصيته وعلى العمامة } قال البيهقي : إسناد هذه الرواية حسن ، وعن أنس قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة } رواه أبو داود .

                                      والقطرية بكسر القاف نوع من البرود قال الخطابي : فيها حمرة ، فإن قيل كيف يصح هذا التأويل وكيف يظن بالراوي حذف مثل هذا ؟ فالجواب أنه [ ص: 440 ] ثبت بالقرآن وجوب مسح الرأس وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة ، وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية فكان محتملا لموافقة الأحاديث الباقية ، ومحتملا لمخالفتها ، فكان حملها على الاتفاق وموافقة القرآن أولى ، قال أصحابنا : وإنما حذف بعض الرواة ذكر الناصية لأن مسحها كان معلوما ; لأن مسح الرأس مقرر معلوم لهم وكان المهم بيان مسح العمامة ، قال الخطابي : والأصل أن الله تعالى - : فرض مسح الرأس ، والحديث محتمل للتأويل ، فلا يترك اليقين بالمحتمل ، قال هو وسائر الأصحاب : وقياس العمامة على الخف بعيد لأنه يشق نزعه بخلافها والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بمسح الرأس : ( إحداها ) : المرأة كالرجل في صفة ; مسح الرأس على ما سبق . نص عليه الشافعي - رحمه الله تعالى - : في البويطي وذكره الأصحاب ، ونقله البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب ، قال الشافعي في البويطي : وتدخل يدها تحت خمارها حتى يقع المسح على الشعر ، فلو وضعت يدها المبتلة على خمارها قال أصحابنا : إن لم يصل البلل إلى الشعر لم يجزئها وإن وصل فهي كالرجل إذا وضع يده المبتلة على رأسه إن أمرها عليه أجزأه ، وإلا فوجهان الصحيح الإجزاء



                                      ( الثانية ) : لو كان له رأسان كفاه مسح أحدهما ، وفيه احتمال للدارمي وقد سبقت المسألة في فصل غسل الوجه .



                                      ( الثالثة ) قال أصحابنا : لا تتعين اليد لمسح الرأس ، فله المسح بأصابعه وبأصبع واحدة أو خشبة أو خرقة أو غيرها أو يمسحه له غيره ، قال الشيخ أبو حامد وغيره : أو يقف تحت المطر فيقع عليه وينوي المسح فيجزئه ، كل ذلك بلا خلاف ولو قطر الماء على رأسه ولم يبل أو وضع عليه يده المبتلة ولم يمرها عليه أو غسل رأسه بدل مسحه أجزأه على الصحيح ، وبه قطع الأكثرون . لأنه في معنى المسح . وفيه وجه أنه لا يجزيه لأنه لا يسمى مسحا حكاه المتولي والبغوي والروياني والشاشي وغيرهم ، ونقل إمام الحرمين الاتفاق على إجزاء الغسل ، قال : لأنه فوق المسح ، فإجزاء المسح مبني على إجزاء الغسل من طريق الأولى ، فإذا قلنا بالمذهب وهو إجزاء الغسل فقد نقل [ ص: 441 ] إمام الحرمين والغزالي في البسيط اتفاق الأصحاب على أنه لا يستحب وهل يكره ؟ فيه وجهان : قال إمام الحرمين في النهاية : قال الأكثرون : وهو مكروه لأنه سرف كالغسلة الرابعة ، وبهذا قطع المحاملي في اللباب والجرجاني في التحرير . والوجه الثاني : لا يكره وهو قول القفال ، ولم يذكر إمام الحرمين في الأساليب غيره وصححه الغزالي في الوجيز والرافعي . وأما غسل الخف بدل مسحه فمكروه بلا خلاف لأنه تعييب له بلا فائدة ، وممن نقل الاتفاق على كراهته إمام الحرمين والله أعلم




                                      الخدمات العلمية