الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .

هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام ، وهو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أحد ، وتفنيد المنافقين في مزاعمهم أن الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا ، فبعد أن بين لهم ما يدفع توهمهم أن الانهزام كان خذلانا من الله وتعجبهم منه كيف يلحق قوما خرجوا لنصر الدين وأن لا سبب للهزيمة بقوله إنما استزلهم الشيطان ثم بين لهم أن في تلك الرزية فوائد بقول الله تعالى لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وقوله وليعلم المؤمنين ، ثم أمرهم بالتسليم لله في كل حال فقال وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وقال يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم الآية . وبين لهم أن قتلى المؤمنين الذين حزنوا لهم إنما هم أحياء ، وأن المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم لا يضيع الله أجرهم ولا فضل ثباتهم ، وبين لهم أن سلامة الكفار لا ينبغي أن تحزن المؤمنين ولا أن [ ص: 188 ] تسر الكافرين ، وأبطل في خلال ذلك مقال المنافقين بقوله قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وبقوله الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا إلى قوله قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ختم ذلك كله بما هو جامع للغرضين في قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة لأن المصيبة والحزن إنما نشآ على موت من استشهد من خيرة المؤمنين ، يعني أن الموت لما كان غاية كل حي فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعد ذلك ، فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل الله ، ولا يفتنكم المنافقون بذلك ، ويكون قوله بعده وإنما توفون أجوركم يوم القيامة قصر قلب لتنزيل المؤمنين - فيما أصابهم من الحزن على قتلاهم وعلى هزيمتهم - منزلة من لا يترقب من عمله إلا منافع الدنيا وهو النصر والغنيمة ، مع أن نهاية الأجر في نعيم الآخرة ، ولذلك قال توفون أجوركم أي تكمل لكم ، وفيه تعريض بأنهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين : منها النصر يوم بدر ، ومنها كف أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم بمكة إلى أن تمكنوا من الهجرة .

والذوق هنا أطلق على وجدان الموت ، وقد تقدم بيان استعماله عند قوله آنفا ونقول ذوقوا عذاب الحريق وشاع إطلاقه على حصول الموت ، قال تعالى لا يذوقون فيها الموت ويقال : ذاق طعم الموت .

والتوفية : إعطاء الشيء وافيا . ويطلقها الفقهاء على مطلق الإعطاء والتسليم ، والأجور جمع الأجر بمعنى الثواب ، ووجه جمعه مراعاة أنواع الأعمال . ويوم القيامة : يوم الحشر سمي بذلك لأنه يقوم فيه الناس من خمود الموت إلى نهوض الحياة .

والفاء في قوله فمن زحزح للتفريع على توفون أجوركم ومعنى زحزح أبعد . وحقيقة فعل زحزح أنها جذب بسرعة ، وهو مضاعف زحه عن المكان إذا جذبه بعجلة .

وإنما جمع بين زحزح عن النار وأدخل الجنة ، مع أن في الثاني غنية عن [ ص: 189 ] الأول ، للدلالة على أن دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين : النجاة من النار ، ونعيم الجنة .

ومعنى فقد فاز نال مبتغاه من الخير لأن ترتب الفوز على دخول الجنة والزحزحة عن النار معلوم فلا فائدة في ذكر الشرط إلا لهذا . والعرب تعتمد في هذا على القرائن ، فقد يكون الجواب عين الشرط لبيان التحقيق ، نحو قول القائل : من عرفني فقد عرفني ، وقد يكون عينه بزيادة قيد ، نحو قوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما وقد يكون على معنى بلوغ أقصى غايات نوع الجواب والشرط كما في هذه الآية ، وقوله ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته على أحد وجهين ، وقول العرب : " من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك " . وجميع ما قرر في الجواب يأتي مثله في الصفة ونحوها كقوله ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا .

التالي السابق


الخدمات العلمية