الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
حذف الفعل

وينقسم إلى عام وخاص :

فالخاص نحو " أعني " مضمرا ، وينتصب المفعول به في المدح ؛ نحو : والصابرين في البأساء والضراء ( البقرة : 177 ) [ ص: 268 ] وقوله : والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ( النساء : 162 ) أي : أمدح .

واعلم أنه إذا كان المنعوت متعينا لم يجز تقدير ناصب نعته بـ ( أعني ) نحو : الحمد لله الحميد ؛ بل المقدر فيه وفي نحوه ( أذكر ) أو ( أمدح ) فاعرف ذلك .

والذم نحو قوله تعالى : وامرأته حمالة الحطب ( المسد : 4 ) في قراءة النصب ، والأخفش ينصب في المدح بـ ( أمدح ) وفي الذم بـ ( أذم ) .

واعلم أن مراد المادح إبانة الممدوح من غيره ، فلا بد من إبانة إعرابه عن غيره ؛ ليدل اللفظ على المعنى المقصود ، ويجوز فيه النصب بتقدير ( أمدح ) والرفع على معنى ( هو ) ولا يظهران لئلا يصيرا بمنزلة الخبر .

والذي لا مدح فيه فاختزال العامل فيه واجب ، كاختزاله في " والله لأفعلن " إذ لو قيل : " أحلف بالله " لكان عدة لا قسما .

والعام كل منصوب دل عليه الفعل لفظا أو معنى أو تقديرا ، ويحذف لأسباب :

أحدها : أن يكون مفسرا ؛ كقوله تعالى : إذا السماء انشقت ( الانشقاق : 1 ) وإياي فارهبون ( البقرة : 40 ) .

ومنه أبشرا منا واحدا نتبعه ( القمر : 24 ) والسماء رفعها ( الرحمن : 7 ) إذا الشمس كورت ( التكوير : 1 ) وإن أحد من المشركين استجارك ( التوبة : 6 ) وإن طائفتان ( الحجرات : 9 ) فإنه ارتفع بـ " اقتتل " مقدرا .

[ ص: 269 ] قالوا : ولا يجوز حذف الفعل مع شيء من حروف الشرط العاملة سوى " إن " ؛ لأنها الأصل .

وجعل ابن الزملكاني هذا مما هو دائر بين الحذف والذكر ؛ فإن الفعل المفسر كالمتسلط على المذكور ، ولكن لا يتعين إلا بعد تقدم إبهام ، ولقد يزيده الإضمار إبهاما إذا لم يكن المضمر من جنس الملفوظ به ؛ نحو : والظالمين أعد لهم عذابا أليما ( الإنسان : 31 ) . إذ المذكور في حكم الشاهد للمقدر فيلتحق بباب الكناية . والتقدير : ويعذب الظالمين لأنه أعد لهم عذابا أليما .

الثاني : أن يكون هناك حرف جر ؛ نحو : بسم الله الرحمن الرحيم ( الفاتحة : 1 ) فإنه يفيد أن المراد : بسم الله أقرأ ، أو أقوم ، أو أقعد ، عند القراءة وعند الشروع في القيام أو القعود ، أي فعل كان .

واعلم أن النحاة اتفقوا على أن " بسم الله " بعض جملة ، واختلفوا .

فقال البصريون : الجملة اسمية ؛ أي : ابتدائي بسم الله .

وقال الكوفيون : الجملة فعلية ، وتابعهم الزمخشري في تقدير الجملة فعلية ، ولكن خالفهم في موضعين :

أحدهما : أنهم يقدرون الفعل مقدما وهو يقدره مؤخرا .

والثاني : أنهم يقدرونه فعل البداية ، وهو يقدره في كل موضع بحسبه ؛ فإذا قال الذابح : " بسم الله " ، كان التقدير : بسم الله أذبح ، وإذا قال القارئ : " بسم الله " فالتقدير : بسم الله أقرأ .

وما قال أجود مما قالوا ؛ لأن مراعاة المناسبة أولى من إهمالها ، ولأن اسم الله أهم من الفعل ، فكان أولى بالتقديم ، ومما يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : باسمك ربي وضعت جنبي فقدم اسم الله على الفعل المتعلق فيه الجار وهو " وضعت " .

[ ص: 270 ] الثالث : أن يكون جوابا لسؤال وقع ، كقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( لقمان : 25 ) .

وقوله : ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ( العنكبوت : 63 ) .

وقوله : وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم ( البقرة : 135 ) أي : بل نتبع .

أو جوابا لسؤال مقدر ؛ كقراءة : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ( النور : 36 - 37 ) ببناء الفعل للمفعول ؛ فإن التقدير : يسبحه فيها رجال .

وفيه فوائد : منها الإخبار بالفعل مرتين ، ومنها جعل الفضلة عمدة .

ومنها : أن الفاعل فسر بعد اليأس منه ؛ كضالة وجدها بعد اليأس ، ويصح أن يكون " يسبح " بدلا من " يذكر " على طريقة : سبح اسم ربك الأعلى ( الأعلى : 1 ) و " له فيها " خبر مبتدأ هو " رجال " .

مثله قراءة من قرأ : زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ( الأنعام : 137 ) قال أبو العباس : المعنى زينه شركاؤهم ؛ فيرفع الشركاء بفعل مضمر دل عليه " زين " .

ومثله قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء ( الأنعام : 100 ) إن جعلنا قوله " لله شركاء " مفعولي ( جعلوا ) لأن ( لله ) في موضع الخبر المنسوخ ، و ( شركاء ) نصب في موضع المبتدأ . وعلى هذا فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مفعولا بفعل محذوف دل عليه [ ص: 271 ] سؤال مقدر ، كأنه قيل : أجعلوا لله شركاء ؟ قيل : جعلوا الجن ، فيفيد الكلام إنكار الشريك مطلقا ، فدخل اعتقاد الشريك من غير الجن في إنكار دخول اتخاذه من الجن .

والثاني : ذكره الزمخشري : أن الجن بدل من ( شركاء ) فيفيد إنكار الشريك مطلقا ، كما سبق ، وإن جعل ( لله ) صلة كان ( شركاء الجن ) مفعولين ، قدم ثانيهما على أولهما ، وعلى هذا فلا حذف .

فأما على الوجه الأول فقيل : وجعلوا لله شركاء الجن ( الأنعام : 100 ) ولم يقل : " وجعلوا الجن شركاء لله " تعظيما لاسم الله تعالى ؛ لأن شأن الله أعظم في النفوس ، فإذا قدم " لله " والكلام فيه يستدعي طلب المجعول له ما هو ؟ فقيل : شركاء ، وقع في غاية التشنيع ؛ لأن النفس منتظرة لهذا المهم المعلق بهذا المعظم نهاية التعظيم ؛ فإذا علم أنه علق به هذا المستبشع في النهاية كان أعظم موقعا من العكس ؛ لأنه إذا قيل : وجعلوا شركاء . لم يعطه تشوف النفوس ؛ لجواز أن يكون جعلوا شركاء في أموالهم وصدقاتهم ، أو غير ذلك .

الثالث : أن الجعل غالبا لا يتعلق بالله ويخبر به إلا وهو جعل مستقبح كاذب ؛ إذ لا يستعمل : جعل الله رحمة ومشيئة وعلما ونحوه . لا سيما بالاستقراء القرآني ؛ كـ : ويجعلون لله البنات ( النحل : 57 ) ويجعلون لله ما يكرهون ( النحل : 62 ) إلى غير ذلك . فإذا قيل : وجعلوا عصبة اقترحوها وافتروها ، وقصدوا بها تشوف النفوس إلى ذلك ما لا يحصل في " جعلوا شركاء " .

[ ص: 272 ] الرابع : أن أصل الجعل وإن جاز إسناده إلى الله فيما إذا كان الأمر لائقا ، فإن بابه مهول ؛ لأن الله تعالى قد علمنا عظيم خطره ، وألا نقول فيه إلا بالعلم ؛ كقوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( البقرة : 169 ) وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ( النجم : 28 ) إلى غير ذلك مع ما دل عليه الأدب عقلا ، وكان نفس الجعل مستنكرا إن لم يتبع بمجعول لائق ، فإذا أتبع بمجعول غير لائق منهم ثم فسر بخاص مستنكر ، صار قوله : وجعلوا لله شركاء الجن ( الأنعام : 100 ) في قوة إنكار ذلك ثلاث مرات :

الأول : جسارتهم في أصل الجعل .

الثاني : في كون المجعول شركاء .

الثالث : في أنهم شركاء جن .

الخامس : أن في تقديم " لله " إفادة تخصيصهم إياه بالشركة على الوجه الثالث دون جميع ما يعبدون ؛ لأنه الإله الحق .

السادس : أنه جيء بكلمة " جعلوا " لا " اعتقدوا " ولا " قالوا " ؛ لأنه أدل على إثبات المعتقد ؛ لأنه يستعمل في الخلق والإبداع .

السابع : كلمة " شركاء " ولم يقل " شريكا " وفاقا لمزيد ما فتحوا من اعتقادهم .

الثامن : لم يقل " جنا " وإنما قال : " الجن " ؛ دلالة على أنهم اتخذوا الجن كلها ، وجعلوه من حيث هو صالح لذلك ، وهو أقبح من التنكير الذي وضعه للمفردات المعدولة .

الرابع : أن يدل عليه معنى الفعل الظاهر ؛ كقوله تعالى : انتهوا خيرا لكم ( النساء : 171 ) أي : وائتوا أمرا خيرا لكم ، فعند سيبويه : أن " خيرا " انتصب بإضمار " ائت " ؛ لأنه لما نهاه علم أنه يأمره بما هو خير ؛ فكأنه قال : " وائتوا خيرا " ؛ لأن النهي عن [ ص: 273 ] الشيء أمر بضده ؛ ولأن النهي تكليف ، وتكليف العدم محال ؛ لأنه ليس مقدورا ، فثبت أن متعلق التكليف أمر وجودي ، ينافي المنهي عنه ، وهو الضد .

وحمله الكسائي على إضمار ( كان ) أي : يكن الانتهاء خيرا لكم ، ويمنعه إضمار ( كان ) ولا تضمر في كل موضع ، ومن جهة المعنى إذ من ترك ما نهي عنه فقد سقط عنه اللوم ، وعلم أن ترك المنهي عنه خير من فعله ، فلا فائدة في قوله ( خيرا ) .

وحمله الفراء على أنه صفة لمصدر محذوف ؛ أي : انتهوا انتهاء خيرا لكم . وقال : إن هذا الحذف لم يأت إلا فيما كان ( أفعل ) نحو : خير لك ، وأفعل .

ورد مذهبه ومذهب الكسائي بقوله تعالى : ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم ( النساء : 171 ) لو حمل على ما قالا لا يكون خيرا ؛ لأن من انتهى عن التثليث وكان معطلا لا يكون خيرا له ، وقول سيبويه : وائت خيرا يكون أمرا بالتوحيد الذي هو خير . فلله در الخليل وسيبويه ، ما أطلعهما على المعاني !

وقوله : فأجمعوا أمركم وشركاءكم ( يونس : 71 ) إن لم يجعل مفعولا معه ، أي : وادعوا شركاءكم ، وبإظهار " ادعوا " قرأ أبي ، وكذلك هو مثبت في مصحف ابن مسعود .

وقوله تعالى : فراغ عليهم ضربا باليمين ( الصافات : 93 ) قال ابن الشجري : معناه مال عليهم يضربهم ضربا . ويجوز نصبه على الحال ؛ نحو : أتيته مشيا ، أي : ماشيا . ثم ادعهن يأتينك سعيا ( البقرة : 260 ) أي : ساعيات . وقوله : [ ص: 274 ] " باليمين " إما اليد أو القوة . وجوز ابن الشجري إرادة القسم ، والباء للتعليل ؛ أي : لليمين التي حلفها ، وهي قوله تعالى : لأكيدن أصنامكم ( الأنبياء : 57 ) .

وزعم النووي في قوله تعالى : قل لا تقسموا طاعة معروفة ( النور : 53 ) أن التقدير : ليكن منكم طاعة معروفة .

الخامس : أن يدل عليه العقل ؛ كقوله تعالى : فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه ( البقرة : 60 ) أي : فضرب فانفجرت .

وقوله : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا ( القمر : 10 - 11 ) قال النحاس : التقدير : فنصرناه ففتحنا أبواب السماء ؛ لأن ما ظهر من الكلام يدل على ما حذف .

وقوله : يمده من بعده سبعة أبحر ( لقمان : 27 ) أي : يكتب بذلك كلمات الله ما نفدت ، قاله أبو الفتح .

وقوله : فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ( البقرة : 243 ) .

فقوله : ثم أحياهم . معطوف على فعل محذوف تقديره : فماتوا ثم أحياهم ، ولا يصح عطف قوله : ثم أحياهم على قوله : موتوا ؛ لأنه أمر ، وفعل الأمر لا يعطف على الماضي .

وقوله : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ( البقرة : 213 ) أي : فاختلفوا فبعث ، وحذف لدلالة قوله تعالى : ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ( البقرة : 213 ) وهي في قراءة عبد الله كذلك .

[ ص: 275 ] وقيل : تقديره : " كان الناس أمة واحدة كفارا فبعث الله النبيين فاختلفوا " . والأول أوجه .

وقوله : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ( الأعراف : 63 ) فالهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف تقديره " أكذبتم وعجبتم أن جاءكم " .

وقوله : قال نعم وإنكم لمن المقربين ( الأعراف : 114 ) هو معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب ؛ كأنه قال إيجابا لقولهم : إن لنا لأجرا ( الأعراف : 113 ) نعم ، إن لكم أجرا ، وإنكم لمن المقربين .

وقوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر البقرة : 184 ) أي : فأفطر فعدة ، خلافا للظاهرية ؛ حيث أوجبوا الفطر على المسافر أخذا من الظاهر .

وقوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية ( البقرة : 196 ) أي : فحلق ففدية .

وقوله : فقلنا اضربوه ببعضها ( البقرة : 73 ) قال الزمخشري : التقدير " فضربوه فحيي " فحذف ذلك لدلالة قوله : كذلك يحيي الله الموتى ( البقرة : 73 ) .

وزعم ابن جني أن التقدير في قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ( النساء : 41 ) أن التقدير : فكيف يكون إذا جئنا .

السادس : أن يدل عليه ذكره في موضع آخر كقوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا ( البقرة : 72 ) قال الواحدي : هو بإضمار " اذكر " ؛ ولهذا لم يأت لـ " إذ " بجواب .

ومثله [ ص: 276 ] قوله تعالى : وإلى ثمود أخاهم صالحا ( هود : 61 ) وليس شيء قبله تراه ناصبا لـ " صالحا " بل علم بذكر النبي والمرسل إليه أن فيه إضمار " أرسلنا " .

وقوله : ولسليمان الريح ( الأنبياء : 81 ) أي : وسخرنا .

ومثله ونوحا إذ نادى من قبل ( الأنبياء : 76 ) وذا النون ( الأنبياء : 87 )

وكذا وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ( الأنبياء : 78 ) أي : واذكر .

قال : ويدل على " اذكر " في هذه الآيات قوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ( الأنفال : 26 ) واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ( الأعراف : 86 ) .

وما قاله ظاهر ؛ لأن مفعول " اذكر " يكون محذوفا أيضا تقديره : واذكروا حالكم ونحوه إذا كان كذا ، وذلك ليكون " إذ " في موضع نصب على الظرف ، ولو لم يقدر ذلك المحذوف لزم وقوع " إذ " مفعولا به ، والأصح أنها لا تفارق الظرفية .

السابع : المشاكلة ؛ كحذف الفاعل في " بسم الله " ؛ لأنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله ؛ فلو ذكر الفعل وهو لا يستغنى عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود ، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ؛ ليكون المبدوء به اسم الله ، كما تقول في الصلاة : الله أكبر ، ومعناه من كل شيء ، ولكن لا تقول هذا المقدر ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود الجنان ، وهو أن يكون في القلب ذكر الله العظيم وحده ، وأيضا فلأن الحذف أعم من الذكر ، فإن أي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه ؛ لأن التسمية تشرع عند كل فعل .

[ ص: 277 ] الثامن : أن يكون بدلا من مصدره ؛ كقوله تعالى : فضرب الرقاب ( محمد : 4 ) وقوله : فإما منا بعد وإما فداء ( محمد : 4 ) أي : فإما أن تمنوا وإما أن تفادوا .

وقد اختلف في نصب " السلام " في قوله تعالى في سورة هود : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما ( هود : 69 ) وفي الذاريات : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما ( الذاريات : 24 - 25 ) وفي نصبها وجهان :

أحدهما : أن يكون منصوبا بالقول ، أي : يذكرون قولا سلاما فيكون من باب : قلت حقا وصدقا .

الثاني : أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره : فقالوا سلمنا سلاما ؛ أي : سلمنا تسليما ، فيكون قد حكى الجملة بعد القول ثم حذفها ، واكتفى ببعضها .

والحاصل أنه هل هو منصوب بالقول ، أو بكونه مصدرا لفعل محذوف ؟

ومثله قوله تعالى : وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ( النحل : 30 ) منصوب بـ ( قالوا ) كقولك : فقلت حقا ، أو منصوب بفعل مضمر ؛ أي : قالوا أنزل خيرا ، من باب حذف الجملة المحكية وتبقية بعضها .

وأما قوله تعالى : وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ( النحل : 24 ) فمرفوع ؛ لأنه لا يمكن نصبه على تقدير " قالوا أساطير الأولين " لأنهم لم يكونوا يرونه من عند الله حتى يقولوا ذلك ، ولا هو أيضا من باب : قلت حقا وصدقا ، فلم يبق إلا رفعه .

[ ص: 278 ] تنبيه

قد يشتبه الحال في أمر المحذوف وعدمه ؛ لعدم تحصيل معنى الفعل ، كما قالوا في قوله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ( الإسراء : 110 ) فإنه قد يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء ؛ فلا يقدر في الكلام حذف ، وليس كذلك ، وإلا لزم الاشتراك إن كانا متفاوتين ، أو عطف الشيء على نفسه ، وإنما الدعاء هنا بمعنى التسمية التي تتعدى لمفعولين ؛ أي : سموه الله أو الرحمن .

وقد يشتبه في تعيين المحذوف لقيام قرينتين ؛ كقوله تعالى : بلى قادرين ( القيامة : 4 ) قدره سيبويه بـ " بلى نجمعها قادرين " فـ ( قادرين ) حال ، وحذف الفعل لدلالة : أن لن نجمع ( القيامة : 3 ) عليه .

وقدره الفراء " نحسب " لدلالة أيحسب الإنسان ( القيامة : 3 ) أي : بلى نحسبنا قادرين .

وتقدير سيبويه أولى ؛ لأن ( بلى ) ليس جوابا لـ " يحسب " إنما هو جواب لـ " أن لن نجمع " وقدره بعضهم : بلى نقدر قادرين .

وقيل : منصوب لوقوعه موقع الفعل ، وهو باطل ؛ لأنه ليس من نواصب الاسم وقوعه موقع الفعل

تنبيه آخر

إن الحذف على ضربين :

أحدهما : ألا يقام شيء مقام المحذوف ، كما سبق .

والثاني : أن يقام مقامه ما يدل عليه ؛ كقوله تعالى : فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم [ ص: 279 ] ( هود : 57 ) ليس الإبلاغ هو الجواب ؛ لتقدمه على قولهم ، فالتقدير : فإن تولوا فلا ملام علي لأني قد أبلغتكم ، أو : فلا عذر لكم عند ربكم لأني أبلغتكم . وقوله : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ( فاطر : 4 ) فلا تحزن واصبر .

وقوله : وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ( الأنفال : 38 ) أي : يصيبهم ما أصاب الأولين .

التالي السابق


الخدمات العلمية