الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
حذف الحرف

قال أبو الفتح في " المحتسب " : أخبرنا أبو علي قال : قال أبو بكر بن السراج : حذف الحرف ليس يقاس ؛ وذلك لأن الحرف نائب عن الفعل بفاعله ، ألا تراك إذا قلت : ما قام زيد ، فقد نابت " ما " عن " أنفي " كما نابت " إلا " عن " أستثني " ، وكما نابت الهمزة وهل عن " أستفهم " ، وكما نابت حروف العطف عن " أعطف " ونحو ذلك . فلو ذهبت تحذف الحرف لكان ذلك اختصارا ، واختصار المختصر إجحاف به ؛ إلا أنه إذا صح التوجه إليه ، وقد جاز في بعض الأحوال حذفه لقوة الدلالة عليه . انتهى .

فمنه الواو ، تحذف لقصد البلاغة ؛ فإن في إثباتها ما يقتضي تغاير المتعاطفين ، فإذا حذفت أشعر بأن الكل كالواحد ، كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ( آل عمران : 118 ) تقديره : ولا يألونكم خبالا .

[ ص: 280 ] وقوله تعالى : وجوه يومئذ ناعمة ( الغاشية : 8 ) أي : ووجوه .

وخرج عليه الفارسي قوله تعالى : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا ( التوبة : 92 ) الآية . وقال : تقديره " وقلت لا أجد " فهو معطوف على قوله : " أتوك " ؛ لأن جواب " إذا " قوله : تولوا .

ومنعه ابن الشجري في أماليه ، وعلى هذا فلا موضع له من الإعراب ؛ لأنه معطوف على الصلة ، والصلة لا موضع لها من الإعراب ، فكذلك ما عطف عليها .

وقال الزمخشري : هي حال من الكاف في ( أتوك ) و " قد " قبله مضمرة ، كما في قوله : أو جاءوكم حصرت صدورهم ( النساء : 90 ) أي : إذا ما أتوك قائلا لا أجد تولوا ، وعلى هذا فله موضع من الإعراب لأنه حال .

قال السهيلي في " أماليه " : ليس معنى الآية كما قالوا ؛ لأن رفع الحرج عن القوم ليس مشروطا بالبكاء عند التولي ، وإنما شرطه عدم الجدة ، والآية نزلت في السبعة الذين سماهم ابن إسحاق ، ولو كان جواب ( إذا أتوك ) في قوله : تولوا وأعينهم تفيض ( التوبة : 92 ) لكان من لم تفض عيناه من الدمع هو الذي حرج وأثم ، وما رفع الله الحرج عنهم إلا لأن الرسول لم يجد ما يحملهم عليه . وإذا عطفت " قلت لا [ ص: 281 ] أجد " على " أتوك " كان الحرج غير مرفوع عنهم حتى يقال : وأعينهم تفيض ( التوبة : 92 ) فجواب " إذا " في قوله : " لا أجد " وما بعد ذلك خبر ونبأ على هؤلاء السبعة الذين كانوا سبب نزول هذه الآية ، ففضيلة البكاء مخصوصة بهم ، ورفع الحرج بشرط عدم الجدة عام فيهم وفي غيرهم .

وقال الواحدي في قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا ( البقرة : 116 ) : آية البقرة في مصاحف الشام بغير واو - يعني قراءة ابن عامر - لأن هذه الآية ملابسة لما قبلها من قوله : ومن أظلم ممن منع مساجد الله ( البقرة : 114 ) لأن القائلين : اتخذ الله ولدا ، من جملة المتقدم ذكرهم ، فيستغنى عن ذكر الواو لالتباس الجملة بما قبلها ، كما استغني عنها في نحو قوله تعالى : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( البقرة : 39 ) ولو كان " وهم " كان حسنا ، إلا أن التباس إحدى الجملتين بالأخرى وارتباطها بها أغنى عن الواو .

ومثله : سيقولون ثلاثة رابعهم ( الكهف : 22 ) ولم يقل : " ورابعهم " كما قال : وثامنهم . ولو حذف الواو منها كما حذف من التي قبلها واستغني عن الواو بالملابسة التي بينهما كان حسنا ، ويمكن أن يكون حذف الواو لاستئناف الجملة ، ولا يعطف على ما تقدم . انتهى .

وحصل من كلامه أنه عند حذف الواو يجوز أن يلاحظ معنى العطف ، ويكتفى للربط بينها وبين ما قبلها بالملابسة كما ذكر ، ويجوز ألا يلاحظ ذلك ؛ فتكون الجملة مستأنفة .

قال ابن عمرون : وحذف الواو في الجمل أسهل منه في المفرد ، وقد كثر حذفها في [ ص: 282 ] الجمل في الكلام المحمول بعضه على بعض ، نحو قوله تعالى : قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب ( الشعراء : 23 إلى 28 ) كله محمول بعضه على بعض ، والواو مزيدة ، حذفت لاستقلال الجمل بأنفسها ، بخلاف المفرد ، ولأنه في المفرد ربما أوقع لبسا في نحو " رأيت زيدا ورجلا عاقلا " ولو جاز حذف الواو احتمل أن يكون " رجلا " بدلا بخلاف الجملة .

وقريب منه قوله تعالى : فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون أي : وقال .

ومنه الفاء في جواب الشرط على رأي ، وخرج عليه قوله تعالى : إن ترك خيرا الوصية أي : فالوصية .

والفاء في العطف كقوله تعالى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ( البقرة : 67 ) تقديره : فقال : أعوذ بالله . ذكره ابن الشجري في " أماليه " .

وقوله تعالى : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ( الأعراف : 65 ) حذف حرف العطف من قوله : قال . ولم يقل " فقال " كما في قصة نوح ؛ لأنه على تقدير سؤال سائل قال : ما قال لهم هود ؟ فقيل : قال : يا قوم اعبدوا الله واتقوه .

ومنه حذف همزة الاستفهام ، كقوله تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي أي : أهذا ربي ؟

[ ص: 283 ] وقوله : وما أصابك من سيئة فمن نفسك ( النساء : 79 ) أي : أفمن نفسك .

وقوله : وتلك نعمة تمنها علي ( الشعراء : 22 ) أي : أوتلك نعمة .

وقوله : أئنك لأنت يوسف ( يوسف : 90 ) على قراءة ابن كثير بكسر الهمزة ، على خلاف في ذلك جميعه .

ومنه حذف ألف ( ما ) الاستفهامية مع حرف الجر للفرق بين الاستفهامية والخبرية ؛ كقوله تعالى : فلم تقتلون أنبياء الله ( البقرة : 91 ) فيم أنت من ذكراها ( النازعات : 43 ) عم يتساءلون ( النبأ : 1 ) و : مم خلق ( الطارق : 5 ) .

ومنه حذف الياء في : والليل إذا يسر ( الفجر : 4 ) للتخفيف ورعاية الفاصلة .

ومنه حذف حرف النداء ، كقوله : ها أنتم هؤلاء ( آل عمران : 66 ) أي : يا هؤلاء .

وقوله : يوسف ( يوسف : 29 ) أي : يا يوسف .

وقوله : رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس ( مريم : 4 ) أي : يا رب .

ويكثر في المضاف نحو : فاطر السماوات ( يوسف : 101 ) ربنا أنزل علينا مائدة ( المائدة : 114 ) .

وكثر ذلك في نداء الرب سبحانه وتعالى ؛ وحكمة ذلك دلالته على التعظيم والتنزيه ؛ لأن النداء يتشرب معنى الأمر ؛ لأنك إذا قلت : يا زيد . فمعناه أدعوك يا زيد ، فحذفت " يا " من نداء الرب ؛ ليزول معنى الأمر ، ويتمحض التعظيم والإجلال .

وقال الصفار : يجوز حذف حرف النداء من المنادى إلا إذا كان المنادى نكرة مقبلا عليها ؛ إذ لا دليل عليه ، وإلا إذا كان اسم إشارة .

[ ص: 284 ] ومنه حذف " لو " في قوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ( المؤمنون : 91 ) تقديره : لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق .

وقوله : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ( العنكبوت : 48 ) معناه : لو كان كذلك لارتاب المبطلون .

ومنه حذف " قد " في قوله تعالى أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ( الشعراء : 111 ) أي : وقد اتبعك ؛ لأن الماضي لا يقع موقع الحال إلا و " قد " معه ظاهرة أو مقدرة .

ومثلها كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ( البقرة : 28 ) أي : وقد كنتم .

وقوله : أو جاءوكم حصرت صدورهم ( النساء : 90 ) قيل : معناه " قد حصرت " ، بدلالة قراءة يعقوب " حصرة صدورهم " ، وقال الأخفش : الحال محذوفة ، و " حصرت صدورهم " صفتها ، أي : جاءوكم يوما حصرت صدورهم . دعاء عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم على طريقة قاتلهم الله . ورده أبو علي بقوله : " أي قاتلوا قومهم " فلا يجوز أن يدعى عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم ؛ لكن بقول : اللهم ألق بأسهم بينهم .

ومنه حذف ( أن ) في قوله تعالى : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ( الروم : 24 ) المعنى : أن يريكم .

[ ص: 285 ] وحذف " لا " في قوله : تالله تفتأ تذكر ( يوسف : 85 ) أي : لا تفتأ ؛ لأنها ملازمة للنفي ، ومعناها لا تبرح .

قوله : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ( النحل : 15 ) أي : لا تميد .

وقوله : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ( المائدة : 29 ) أي : لا تبوء .

وبهذا التقدير يزول الإشكال من الآية : وعلى الذين يطيقونه فدية ( البقرة : 184 ) أي : لا يطيقونه على قول .

التالي السابق


الخدمات العلمية