الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ويستحب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من زار قبري وجبت له شفاعتي } ويستحب أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم { صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد }

                                      [ ص: 272 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث " صلاة في مسجدي " فسبق بيانه قريبا ، وأنه في الصحيحين من رواية جماعة ، وينكر على المصنف لكونه حذف منه الاستثناء ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " إلا المسجد الحرام " كما سبق بيانه .

                                      وأما حديث ابن عمر فرواه البراء والدارقطني والبيهقي بإسنادين ضعيفين . [ ص: 253 ] مما جاء في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده والسلام عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } رواه أبو داود بإسناد صحيح . وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على حوضي } رواه البخاري ومسلم وروياه أيضا من رواية عبد الله بن زيد الأنصاري . وعن يزيد بن أبي عبيد قال { كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف ، قلت : يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة [ ص: 254 ] عند هذه الأسطوانة قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها } رواه البخاري ومسلم . وعن نافع " أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر دخل المسجد ثم أتى القبر فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه " رواه البيهقي والله أعلم .

                                      واعلم أن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم القربات وأنجح المساعي ، فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة استحب لهم استحبابا متأكدا أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته صلى الله عليه وسلم وينوي الزائر من الزيارة التقرب وشد الرحل إليه والصلاة فيه ، وإذا توجه فليكثر من الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم في طريقه ، فإذا وقع بصره على أشجار المدينة وحرمها وما يعرف بها زاد من الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم وسأل الله تعالى أن ينفعه بهذه الزيارة وأن يقبلها منه " ويستحب أن يغتسل قبل دخوله ويلبس أنظف ثيابه ، ويستحضر في قلبه شرف المدينة ، وأنها أفضل الأرض بعد مكة عند بعض العلماء ، وعند بعضهم أفضلها مطلقا ، وأن الذي شرفت به صلى الله عليه وسلم خير الخلائق . وليكن من أول قدومه إلى أن يرجع مستشعرا لتعظيمه ممتلئ القلب من هيبته كأنه يراه ، فإذا وصل باب مسجده صلى الله عليه وسلم فليقل الذكر المستحب في دخول كل مسجد وسبق بيانه في آخر باب ما يوجب الغسل ، ويقدم رجله اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج كما في سائر المساجد ، فإذا دخل قصد الروضة الكريمة ، وهي ما بين القبر والمنبر فيصلي تحية المسجد بجنب المنبر .

                                      وفي إحياء علوم الدين أنه يستحب أن يجعل عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن ويستقبل السارية التي إلى جانبها الصندوق ، وتكون الدائرة في [ ص: 255 ] قبلة المسجد بين عينيه ، فذلك موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وسع المسجد بعده . وفي كتابالمدينة أن ذرع ما بين المنبر ومقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه حتى توفي أربعة عشرة ذراعا وشبرا ، وأن ذرع ما بين القبر والمنبر ثلاث وخمسون ذراعا وشبرا فإذا صلى التحية في الروضة أو غيرها من المسجد شكر الله تعالى على هذه النعمة وسأله إتمام ما قصده وقبول زيارته . ثم يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر ويبعد من رأس القبر نحو أربع أذرع ، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ويقف ناظرا إلى أسفل ما يستقبله من جدار القبر غاض الطرف في مقام الهيبة والإجلال فارغ القلب من علائق الدنيا ، مستحضرا في قلبه جلالة موقفه ومنزلة من هو بحضرته ، ثم يسلم ولا يرفع صوته ، بل يقصد فيقول : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله ، السلام عليك يا خيرة الله ، السلام عليك يا حبيب الله السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين . السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين . السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وأصحابك أجمعين ، السلام عليك وعلى سائر النبيين وجميع عباد الله الصالحين ، جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبيا ورسولا عن أمته ، وصلى عليك كلما ذكرك ذاكر وغفل عن ذكرك غافل ، أفضل وأكمل ما صلى على أحد من الخلق أجمعين ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنك عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه وأشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده ، اللهم آته الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون . اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت [ ص: 256 ] على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .

                                      ومن طال عليه هذا كله اقتصر على بعضه ، وأقله السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عن ابن عمر وغيره من السلف الاقتصار جدا ، فعن ابن عمر ما ذكرناه عنه قريبا ، وعن مالك يقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . وإن كان قد أوصي بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم قال : السلام عليك يا رسول الله من فلان ابن فلان ، وفلان ابن فلان يسلم عليك يا رسول الله أو نحو هذه العبارة ، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على أبي بكر رضي الله عنه لأن رأسه عند منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيه في الغار ، جزاك الله عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا . ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على عمر رضي الله عنه ويقول السلام عليك يا عمر الذي أعز الله به الإسلام ، جزاك الله عن أمة نبيه صلى الله عليه وسلم خيرا . ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في حق نفسه ، ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى ، ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال : " كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول ( { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } ) وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :

                                      يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
                                      فيه العفاف وفيه الجود والكرم

                                      [ ص: 257 ] ثم انصرف فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : " يا عتبي الحق الأعرابي فبشره بأن الله تعالى قد غفر له " .

                                      ثم يتقدم إلى رأس القبر فيقف بين الأسطوانة ويستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ويمجده ويدعو لنفسه بما شاء ولوالديه ، ومن شاء من أقاربه ومشايخه وإخوانه وسائر المسلمين ، ثم يرجع إلى الروضة فيكثر فيها من الدعاء والصلاة ويقف عند المنبر ويدعو .



                                      ( فرع ) لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر ، قاله أبو عبيد الله الحليمي وغيره ، قالوا : ويكره مسحه باليد وتقبيله ، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضره في حياته صلى الله عليه وسلم . هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه ، ولا يغتر بمخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك ، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء ، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم .

                                      وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد } وفي رواية لمسلم { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم } رواه أبو داود بإسناد صحيح . وقال الفضيل بن عياض رحمه الله ما معناه : اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ، ولا تغتر بكثرة الهالكين . ومن خطر بباله أن المسح باليد [ ص: 258 ] ونحوه أبلغ في البركة ، فهو من جهالته وغفلته ، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وكيف يبتغى الفضل في مخالفة الصواب



                                      ( فرع ) ينبغي له مدة إقامته بالمدينة أن يصلي الصلوات كلها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وينبغي له أن ينوي الاعتكاف فيه كما في سائر المساجد .



                                      ( فرع ) يستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع خصوصا يوم الجمعة ، ويكون ذلك بعد السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا وصله دعا بما سبق في كتاب الجنائز في زيارة القبور ، ومنه : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . اللهم اغفر لأهل الغرقد . اللهم اغفر لنا ولهم . ويزور القبور الطاهرة في البقيع كقبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان والعباس والحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وغيرهم رضي الله عنهم . ويختم بقبر صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها .



                                      ( فرع ) ويستحب أن يزور قبور الشهداء بأحد ، وأفضله يوم الخميس ، ويبدأ بالحمزة رضي الله عنه . وقد ثبت عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { خرج في آخر حياته فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر فقال : إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وفي رواية صلى عليهم بعد ثمان سنين كالوداع للأحياء والأموات ، فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر } رواه البخاري ومسلم . والمراد بالصلاة عليهم الدعاء لهم .

                                      وقوله " صلاته على الميت " أي دعا بدعاء صلاة الميت ، وقد سبق بيان هذا الحديث وتأويله في كتاب الجنائز



                                      ( فرع ) يستحب استحبابا متأكدا أن تأتي مسجد قباء وهو في [ ص: 259 ] يوم السبت آكد ناويا التقرب بزيارته والصلاة فيه ، لحديث ابن عمر قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا فيصلي فيه ركعتين } " وفي رواية { أنه صلى صلى الله عليه وسلم فيه ركعتين } رواه البخاري ومسلم . وعن أسيد بن الحضير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { صلاة في مسجد قباء كعمرة } رواه الترمذي وغيره . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . ويستحب أن يأتي بئر أريس التي روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل فيها وهو عند مسجد قباء " فيشرب منها ويتوضأ



                                      ( فرع ) يستحب أن يزور المشاهد التي بالمدينة وهي ثلاثون موضعا يعرفها أهل المدينة فيقصد ما قدر عليه منها ، وكذلك يأتي الآبار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ منها أو يغتسل وهي سبع آبار فيتوضأ منها ويشرب .

                                      ( فرع ) من جهالات العامة وبدعهم تقربهم بأكل التمر الصيحاني في الروضة الكريمة ، وقطعهم شعورهم ورميها في القنديل الكبير ، وهذا من المنكرات المستشنعة والبدع المستقبحة .



                                      ( فرع ) ينبغي له في مدة مقامه بالمدينة أن يلاحظ بقلبه جلالتها ، وأنها البلدة التي اختارها الله تعالى لهجرة نبيه صلى الله عليه وسلم واستيطانه ومدفنه وتنزيل الوحي ، ويستحضر تردده فيها ومشيه في بقاعها وتردد جبريل صلى الله عليه وسلم فيها بالوحي الكريم ، وغير ذلك من فضائلها .

                                      ( فرع ) يستحب أن يصوم بالمدينة ما أمكنه وأن يتصدق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المقيمون بالمدينة من أهلها ، والغرباء بما أمكنه ، [ ص: 260 ] ويخص أقاربه صلى الله عليه وسلم بمزيد ، لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي } رواه مسلم . وعن ابن عمر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقوفا عليه قال " ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته " رواه البخاري .



                                      ( فرع ) عن خارجة بن زيد بن ثابت أحد فقهاء المدينة السبعة قال { بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده سبعين ذراعا في ستين ذراعا أو يزيد } قال أهل السير جعل عثمان بن عفان رضي الله عنه طول المسجد مائة وستين ذراعا ، وعرضه مائة وخمسين ذراعا ، وجعل أبوابه ستة كما كانت في زمان عمر رضي الله عنه ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل طوله مائة ذراع وعرضه في مقدمه مائتين ، وفي مؤخره مائة وثمانين ، ثم زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشام فقط دون الجهات الثلاث .

                                      فإذا عرفت حال المسجد فينبغي أن تعتني بالمحافظة على الصلاة في الموضع الذي كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحديث السابق { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة } إنما يتناول ما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم لكن إن صلى في جماعة فالتقدم إلى الصف الأول ثم ما يليه أفضل فليتفطن لهذا . والله أعلم



                                      ( فرع ) ليس له أن يستصحب شيئا من الأكر المعمولة من تراب حرم المدينة يخرجه إلى وطنه الذي هو خارج حرم المدينة ، وكذا حكم الكيزان والأباريق المعمولة من حرم المدينة - كما سبق في حرم مكة - وكذا حكم الأحجار والتراب .



                                      ( فرع ) إذا أراد السفر من المدينة والرجوع إلى وطنه أو غيره [ ص: 261 ] استحب له أن يودع المسجد بركعتين ويدعو بما أحب ، ويأتي القبر ويعيد السلام والدعاء المذكورين في ابتداء الزيارة ، ويقول : اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بحرم رسولك ، وسهل لي العود إلى الحرمين سبيلا سهلة ، والعفو والعافية في الآخرة والدنيا ، وردنا إليه سالمين غانمين وينصرف تلقاء وجهه لا قهقرى إلى خلف



                                      ( فرع ) مما شاع عند العامة في الشام في هذه الأزمان المتأخرة ما يزعمه بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له الجنة " وهذا باطل ليس هو مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف ، بل وضعه بعض الفجرة ، وزيارة الخليل صلى الله عليه وسلم فضيلة لا تنكر وإنما المنكر ما رووه واعتقدوه ولا تعلق لزيارة الخليل عليه السلام بالحج ، بل هي قربة مستقلة . والله أعلم .

                                      ومثل هذا قول بعضهم : إذا حج وقدس حجتين فيذهب فيزور بيت المقدس ويرى ذلك من تمام الحج وهذا باطل أيضا ، وزيارة بيت المقدس فضيلة وسنة لا شك فيها لكنها غير متعلقة بالحج ، والله أعلم



                                      ( فرع ) أجمع العلماء على استحباب زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه وعلى فضله ، قال الله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } وثبت في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري ومن رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } وعن ابن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن سليمان [ ص: 262 ] بن داود صلى الله عليهما وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثا ، سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه فأوتيه ، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه } رواه النسائي بإسناد صحيح ، ورواه ابن ماجه وزاد { فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما اثنتين فقد أعطيهما وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة } . وعن ميمونة بنت سعد ، ويقال بنت سعيد ، مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت { يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس ، قال المنشر والمحشر ايتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة ، قالت : أرأيت من لم يطق أن يتحمل إليه لو يأتيه ؟ قال : فليهد إليه زيتا يسرج فيه ، فإنه من أهدى له كان كمن صلى فيه } رواه أحمد بن حنبل في مسنده بهذا اللفظ ، ورواه به أيضا ابن ماجه بإسناد لا بأس به ، ورواه أبو داود مختصرا قالت { قلت : يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس فقال : ايتوه فصلوا فيه وكانت البلاد إذ ذاك حربا ، فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله } هذا لفظ رواية أبي داود وذكره في كتاب الصلاة بإسناد حسن .



                                      ( فرع ) اختلف العلماء في المجاورة بمكة والمدينة ، فقال أبو حنيفة وطائفة : تكره المجاورة بمكة ، وقال أحمد وآخرون : تستحب ، وسبب الكراهة - عند من كره - خوف الملك وقلة الحرمة للأنس وخوف ملابسة الذنوب ، فإن الذنب فيها أقبح منه في غيرها ، كما أن الحسنة فيها أعظم منها في غيرها ، ودليل من استحبها أنه يتيسر فيها من الطاعات ما لا يحصل في غيرها من الطواف وتضعيف الصلوات والحسنات وغير ذلك ، والمختار أن المجاورة مستحبة بمكة والمدينة إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في الأمور المذمومة أو بعضها ، وقد جاور بهما خلائق لا يحصون من سلف الأمة وخلفها ممن يقتدى به .

                                      [ ص: 263 ] وينبغي للمجاور أن يذكر نفسه بما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال " لخطيئة أصيبها بمكة أعز علي من سبعين خطيئة بغيرها " وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من صبر على لأواء المدينة وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة }



                                      ( فصل ) مما تدعو إليه الحاجة صفة الإمام الذي يقيم للناس المناسك ، ويخطب بهم وقد ذكر الإمام أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي صاحب الحاوي في كتابه الأحكام السلطانية بابا في الولاية على الحجيج ، أذكر إن شاء الله تعالى مقاصده قال : ولاية الحاج ضربان .

                                      ( أحدهما ) يكون على تسيير الحجيج ( والثاني ) على إقامة الحج ، فأما الأول فهو ولاية سياسة وتدبير وشرط المتولي أن يكون مطاعا ذا رأي وشجاعة وهداية ويلزمه في هذه الولاية عشرة أشياء : ( أحدها ) جمع الناس في مسيرهم ونزولهم حتى لا يتفرقوا ، فيخاف عليهم .

                                      ( الثاني ) ترتيبهم في السير والنزول وإعطاء كل واحد منهم مقادا حتى يعرف كل فريق مقاده إذا سار ، وإذا نزل ، ولا يتنازعوا ولا يضلوا عنه .

                                      ( الثالث ) يرفق بهم في السير ويسير بسير أضعفهم .

                                      ( الرابع ) يسلك بهم أوضح الطرق وأخصبها .

                                      ( الخامس ) يرتاد لهم المياه ويوفر المياه إذا قلت .

                                      ( السادس ) يحرسهم إذا نزلوا ويحوطهم إذا رحلوا حتى لا يتخطفهم متلصص .

                                      ( السابع ) يكف عنهم من يصدهم عن المسير بقتال إن قدر عليه أو [ ص: 264 ] ببذل مال إن أجاب الحجيج إليه ولا يحل له إجبار أحد على بذل الخفارة إن امتنع ، لأن بذل المال للخفارة لا يجب .

                                      ( الثامن ) يصلح ما بين المتنازعين ولا يتعرض للحكم إلا أن يكون قد فوض إليه الحكم وهو قائم بشروط فيحكم بينهم ، فإن دخلوا بلدا جاز له ولحاكم البلد الحكم بينهم ، ولو تنازع واحد من الحجيج وواحد من البلد لم يحكم بينهم إلا حاكم البلد .

                                      ( التاسع ) يؤدب خائنهم ولا يجاوز التعزير إلا أن يؤذن له في الحد فيستوفيه إذا كان من أهل الاجتهاد فيه ، فإن دخل بلدا فيه متولى لإقامة الحدود على أهله فإن كان الذي من الحجيج أتى بالخيانة قبل دخول البلد فوالي الحج أولى بإقامة الحد عليه ، وإن كان بعد دخوله البلد فوالي البلد أولى به .

                                      ( العاشر ) يراعي اتساع الوقت حتى يؤمن الفوات ، ولا يلحقهم ضيق من الحث على السير ، فإذا وصلوا الميقات أمهلهم للإحرام وإقامة سننه ، فإن كان الوقت واسعا دخل بهم مكة وخرج مع أهلها إلى منى ثم عرفات ، وإن كان ضيقا عدل إلى عرفات مخافة الفوات ، فإذا وصلوا مكة ، فمن لم يعزم على العود زالت ولاية والي الحجيج عنه ، ومن كان على عزم العود فهو تحت ولايته ملتزم أحكام طاعته فإذا قضى الناس حجهم أمهلهم الأيام التي جرت العادة بها لإنجاز حوائجهم ولا يعجل عليهم في الخروج ، فإذا رجعوا سار بهم إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وذلك [ ص: 265 ] وإن لم يكن من فروض الحج ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة ، وعادات الحجيج المستحسنة ، ثم يكون في عوده بهم ملتزما من الحقوق لهم ما كان ملتزما في ذهابه حتى يصل البلد الذي سار بهم منه وتنقطع ولايته بالعود إليه ( الضرب الثاني ) أن تكون الولاية على إقامة الحج فهو بمنزلة الإمام وإقامة الصلوات ، فمن شروط هذه الولاية مع الشروط المعتبرة في أئمة الصلوات أن يكون عالما بمناسك الحج وأحكامه ومواقيته وأيامه ، وتكون مدة ولايته سبعة أيام أولها من صلاة الظهر اليوم السابع من ذي الحجة وآخرها الثالث من أيام التشريق ، وهو فيما قبلها وبعدها من الرعية ، ثم إن كان مطلق الولاية على الحج فله إقامته كل سنة ما لم يعزل عنه ، وإن عقدت ولايته سنة لم يتجاوزها إلا بولاية والذي يختص بولايته ويكون نظره عليه مقصورا خمسة أحكام متفق عليها ، وسادس مختلف فيه .

                                      ( أحدها ) إعلام الناس بوقت إحرامهم ، والخروج إلى مشاعرهم ليكونوا معه مقتدين بأفعاله .

                                      ( والثاني ) ترتيبه المناسك على ما استقر الشرع عليه فلا يقدم مؤخرا ، ولا يؤخر مقدما ، سواء كان التقديم مستحبا أو واجبا ، لأنه متبوع .

                                      ( الثالث ) تقدير المواقيت بمقامه فيها ومسيره عنها ، كما تتقدر صلاة المأموم بصلاة الإمام ( الرابع ) اتباعه في الأذكار المشروعة والتأمين على [ ص: 266 ] دعائه .

                                      ( الخامس ) إقامتهم الصلوات التي شرعت خطب الحج فيها وجمعهم لها ، وهي أربع خطب سبق بيانهن ، أولاهن بعد صلاة الظهر يوم السابع من ذي الحجة ، وهي أول شروعه في مناسكه بعد الإحرام ، يفتتحها بالتلبية إن كان محرما ، وبالتكبير إن كان حلالا ، وليس له أن ينفر النفر الأول ، بل يقيم بمنى ليلة الثالث من أيام التشريق ، ينفر النفر الثاني من غده بعد رميه لأنه متبوع فلم ينفر إلا بعد إكمال المناسك ، فإذا نفر النفر الثاني انقضت ولايته .

                                      وأما الحكم السادس المختلف فيه فثلاثة أشياء .

                                      ( أحدها ) إذا فعل بعض الحجيج ما يقتضي تعزيرا أو حدا فإن كان لا يتعلق بالحج لم يكن له تعزيره ولا حده ، وإن كان له تعلق بالحج فله تعزيره ، وهل له حده ؟ فيه وجهان .

                                      ( والثاني ) لا يجوز أن يحكم بين الحجيج فيما يتنازعون فيه مما لا يتعلق بالحج وفي المتعلق بالحج كالزوجين إذا تنازعا في إيجاب الكفارة بالوطء ومؤنة المرأة في القضاء وجهان .

                                      ( الثالث ) أن يفعل بعضهم ما يقتضي فدية فله أن يعرفه وجوبها ويأمره بإخراجها ، وهل له إلزامه ؟ فيه الوجهان . واعلم أنه ليس لأمير الحج أن ينكر عليهم ما يسوغ فعله إلا أن يخاف اقتداء الناس بفاعله وليس له حمل الناس على مذهبه ، ولو أقام المناسك وهو حلال كره ذلك وصح الحج ، ولو قصد الناس التقدم على الأمير أو التأخر كره ذلك ، ولم يحرم ، هذا آخر كلام الماوردي رحمه الله ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) ذكر الماوردي والبيهقي والقاضي أبو الطيب وغيرهم من [ ص: 267 ] أصحابنا في هذا الموضع نبذة صالحة من آداب السفر والمسافر وما يتعلق بمسيره وغير ذلك وقد قدمت في هذا الشرح في آخر باب صلاة المسافر بابا حسنا في ذلك والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) يجوز أن يقال لمن حج : حاج بعد تحلله ولو بعد سنين ، وبعد وفاته أيضا ، ولا كراهة في ذلك . وأما ما رواه البيهقي عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود قال : " لا يقولن أحدكم إني صرورة ، فإن المسلم ليس بصرورة . ولا يقولن أحدكم إني حاج فإن الحاج هو المحرم " فهو موقوف منقطع والله أعلم .

                                      والمسألة تتخرج على أن بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق المشتق منه أو لا ؟ وفيه خلاف مشهور للأصوليين ، الأصح أنه شرط ، وهو مذهب أصحابنا ، فلا يقال لمن ضرب بعد انقضاء الضرب ضارب ، ولا لمن حج بعد انقضائه حاج إلا مجازا . ومنهم من يقال له : ضارب وحاج حقيقة . وهذا الخلاف في أنه حقيقة أم مجاز كما ذكرنا . وأما جواز الإطلاق فلا خلاف فيه ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال الشيخ أبو حامد في آخر ربع العبادات من تعليقه والبندنيجي وصاحب العدة : يكره أن تسمى حجة النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، وهذا الذي قالوه غلط ظاهر وخطأ فاحش ، ولولا خوف اغترار بعض الأغبياء به لم أستجز حكايته فإنه واضح البطلان ومنابذ للأحاديث الصحيحة في تسميتها حجة الوداع ، ومنابذ لإجماع المسلمين ، ولا يمكن إحصاء الأحاديث المشتملة على تسميتها حجة الوداع . وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال { كنا نتحدث [ ص: 268 ] عن حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، ولا ندري ما حجة الوداع ، حتى حمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ، ثم ذكر تمام الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجة الوداع بمنى } والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في مسائل سبقت .

                                      ( منها ) أن مذهبنا جواز رمي الجمار بجميع أنواع الحجارة من الرخام والبرام وغير ذلك مما يسمى حجرا ، ولا يجوز بما لا يقع عليه اسم الحجر كالكحل والذهب والفضة وغير ذلك مما أوضحناه في موضعه ، وبهذا قال مالك وأحمد وداود . وقال أبو حنيفة يجوز بكل ما هو من جنس الأرض كالكحل والزرنيخ والمدر ، ولا يجوز بما ليس من جنسها ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء } وقد سبق بيان هذا الحديث قال : فأطلق الرمي . قال أصحابنا : ثبت { أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الحجر . وقال صلى الله عليه وسلم لتأخذوا عني مناسككم } والرمي المطلق في قوله ( ارموا ) محمول على الرمي المعروف .



                                      ( فرع ) إذا رمى حصاة فوقعت على محل فتدحرجت بنفسها فوقعت في المرمى أجزأه بالإجماع ، نقله العبدري ، وإن وقعت على ثوب فنفضها صاحبه فوقعت في المرمى لم يجزه عندنا ، وبه قال داود ، وعن أحمد يجزئه .



                                      ( فرع ) ذكرنا أن مذهبنا أن أول وقت طواف الإفاضة من نصف ليلة النحر . وآخره آخر عمر الإنسان ، وإن بقي خمسين سنة أو أكثر ، ولا دم عليه في تأخيره ، وبه قال أحمد ، وقال أبو حنيفة : أوله طلوع فجر يوم النحر وآخره اليوم الثاني من أيام التشريق ، فإن أخره عنه لزمه دم . دليلنا قوله تعالى { وليطوفوا بالبيت } وهذا قد طاف .



                                      ( فرع ) لا يجوز رمي جمرة التشريق إلا بعد زوال الشمس ، وبه [ ص: 269 ] قال ابن عمر والحسن وعطاء ومالك والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد وداود وابن المنذر وعن أبي حنيفة روايتان ( أشهرهما ) وبه قال إسحاق : يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال ، ولا يجوز في اليومين الأولين ( الثانية ) يجوز في الجميع .

                                      وسبق دليلنا حيث ذكر المصنف المسألة .



                                      ( فرع ) ترتيب الجمرات في أيام التشريق شرط ، فيشترط رمي الأولى ، ثم الوسطى ، ثم جمرة العقبة ، وبه قال مالك وأحمد وداود . وقال أبو حنيفة : هو مستحب ، قال فإن نكسه استحب إعادته ، فإن لم يفعل أجزأه ولا دم وحكى ابن المنذر عن عطاء والحسن وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا يجب الترتيب مطلقا .



                                      ( فرع ) يشترط عندنا تفريق الحصيات ، فيفرد كل حصاة برمية ، فإن جمع السبع برمية واحدة حسبت واحدة ، وبه قال مالك وأحمد . وقال داود : يحسب سبعا ، وقال أبو حنيفة : إن وقعن متفرقات حسبن سبعا ، وإلا فواحدة



                                      ( فرع ) إذا ترك ثلاث حصيات من جمرة لزمه دم ، وبه قال مالك وأحمد . وقال أبو حنيفة : لا يجب الدم إلا بترك أكثر جمرة العقبة يوم النحر ، أو بترك أكثر الجمار الثلاث في أيام التشريق .



                                      ( فرع ) أجمعوا على الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي لصغره . وأما العاجز عن الرمي لمرض وهو بالغ فمذهبنا أنه يرمى عنه كالصبي وبه قال الحسن ومالك وأحمد وإسحاق ، وقال النخعي : يوضع الحصى في كفه ثم يؤخذ ويرمى في المرمى .

                                      [ ص: 270 ] فرع ) أجمعوا أنه يقف عند الجمرتين الأوليين للدعاء كما سبق بيانه قريبا ، واختلفوا فيمن ترك هذا الوقوف للدعاء ، فمذهبنا لا شيء عليه وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور والجمهور . وقال الثوري : يطعم شيئا ، فإن أراق دما كان أفضل ومذهبنا أنه يستحب رفع يديه في هذا الدعاء كما يستحب في غيره ، وبه قال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وأبو ثور وابن المنذر والجمهور ، قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا أنكر ذلك غير مالك . قال ابن المنذر : واتباع السنة أولى وذكر الحديث الصحيح فيه ، وقد سبق في موضعه وعن مالك في استحبابه روايتان



                                      ( فرع ) في مذاهبهم فيمن ترك حصاة أو حصاتين قد ذكرنا أن الأصح في مذهبنا أن في حصاة مدا ، وفي حصاتين مدين ، وفي ثلاث دما ، وبه قال أبو ثور ، قال ابن المنذر : وقال أحمد وإسحاق : لا شيء عليه في حصاة ، وقال مجاهد لا شيء عليه في حصاة ولا حصاتين ، وقال عطاء : من رمى ستا يطعم تمرة أو لقمة . وقال الحكم وحماد والأوزاعي ومالك والماجشون : عليه دم في الحصاة الواحدة وقال عطاء فيمن ترك حصاة : إن كان موسرا أراق دما ، وإلا فليصم ثلاثة أيام .



                                      ( فرع ) يجوز له التعجيل في النفر من منى في اليوم الثاني ما لم تغرب الشمس ولا يجوز بعد الغروب ، وبه قال مالك . وقال أبو حنيفة : له التعجيل ما لم يطلع فجر اليوم الثالث . دليلنا قوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } واليوم اسم للنهار دون الليل ، وقال ابن المنذر : [ ص: 271 ] ثبت أن عمر رضي الله عنه قال : " من أدركه المساء في اليوم الثاني بمنى فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس " فقال : وبه قال ابن عمر وأبو الشعثاء وعطاء وطاوس وأبان بن عثمان والنخعي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق ، وبه أقول . قال : روينا عن الحسن والنخعي قالا : " من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني لم ينفر حتى الغد " قال : ولعلهما قالا ذلك استحبابا والله أعلم .

                                      هذا كلام ابن المنذر . وقد ثبت في الموطأ وغيره عن ابن عمر أنه كان يقول " من غربت عليه الشمس وهو بمنى من أوسط أيام التشريق فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد ، وهو ثابت عن عمر كما حكاه ابن المنذر . وروي مرفوعا من رواية ابن عمر ، قال البيهقي : ورفعه ضعيف . وأما الأثر المذكور عن طلحة عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : " إذا انسلخ النهار من يوم النفر الآخر فقد حل الرمي والصدر " فقال البيهقي وغيره : هو ضعيف لأن طلحة بن عمر المكي هذا الراوي ضعيف .



                                      ( فرع ) يجوز لأهل مكة النفر الأول كما يجوز لغيرهم ، هذا مذهبنا ، وبه قال أكثر العلماء ، منهم عطاء وابن المنذر . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه منعهم ذلك ، وقال مالك إن كان لهم عذر جاز ، وإلا فلا ، دليلنا عموم قوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه . }



                                      ( فرع ) ذكرنا أن الأصح في مذهبنا أن طواف الوداع واجب يجب بتركه دم ، وبه قال الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه ، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين ، دليلنا الأحاديث التي ذكرها المصنف وذكرناها .



                                      [ ص: 272 ] فرع ) مذهبنا أنه ليس على الحائض طواف الوداع ، قال ابن المنذر : وبهذا قال عوام أهل العلم ، منهم مالك والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو حنيفة وغيرهم ، قال وروينا عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنه أنهم أمروا ببقائها لطواف الوداع ، قال وروينا عن ابن عمر وزيد الرجوع عن ذلك ، قال : وتركنا قول عمر للأحاديث الصحيحة السابقة في قصة صفية .



                                      ( فرع ) مذهبنا أنه إذا ترك طواف الوداع وقلنا بوجوبه لزمه أن يرجع إليه إن كان قريبا ، وهو دون مرحلتين ، وإلا فلا يجب الرجوع ويلزمه الدم ، وقال الثوري إن خرج من الحرم لزمه دم وإلا فلا



                                      ( فرع ) إذا طاف للوداع فشرط الاعتداد به أن لا يقيم بعده ، فإن أقام لشغل ونحوه لم يحسب عن الطواف ، وإن أقيمت الصلاة بعد طوافه فصلاها معهم لم يضره لأنه تأخير يسير لعذر ظاهر مأمور به ، ووافقنا مالك وأحمد وداود ، وقال أبو حنيفة : إذا طاف للوداع بعد أن دخل وقت النفر لم يضره الإقامة بعده ، ولو بلغت شهرا وأكثر وطوافه ماض على صحته ، دليلنا الحديث السابق { فليكن آخر عهده بالبيت } .



                                      ( فرع ) إذا حاضت ولم تكن طافت للإفاضة ، فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يلزم من أكراها الإقامة لها ، بل لها أن تجعل مكانها من شاءت ، وبه قال ابن المنذر . وقال مالك : يلزم من أكراها الإقامة أكثر مدة الحيض ، وزيادة ثلاثة أيام ، والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية