الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الصلح عن الدين ببعضه ]

المثال السادس والعشرون : إذا كان له عليه ألف درهم فأراد أن يصالحه على بعضها فلها ثمان صور ; فإنه إما يكون مقرا أو منكرا ، وعلى التقديرين فإما أن تكون حالة أو مؤجلة ، ثم الحلول والتأجيل إما أن يقع في المصالح عنه أو في المصالح به ، وإنما تتبين أحكام هذه المسائل بذكر صورها وأصولها .

الصورة الأولى : أن يصالحه عن ألف حالة قد أقر بها على خمسمائة حالة ; فهذا صلح على الإقرار ، وهو صحيح على أحد القولين ، باطل على القول الآخر ; فإن الشافعي لا يصحح الصلح إلا على الإقرار ، والخرقي ومن وافقه من أصحاب الإمام أحمد لا يصححه إلا على الإنكار ، وابن أبي موسى وغيره يصححونه على الإقرار والإنكار ، وهو ظاهر النص ، وهو الصحيح ; فالمبطلون له مع الإقرار يقولون : هو هضم للحق ; لأنه إذا أقر له فقد لزمه ما أقر به ، فإذا بذل له دونه فقد هضمه حقه ، بخلاف المنكر فإنه يقول : إنما افتديت يميني والدعوى علي بما بذلته ، والآخذ يقول : أخذت بعض حقي ، والمصححون له يقولون : إنما يمكن الصلح مع الإقرار لثبوت الحق به ; فتمكن المصالحة على بعضه ، وأما مع الإنكار فأي شيء ثبت حتى يصالح عليه ؟

فإن قلتم : " صالحه عن الدعوى واليمين وتوابعهما ، فإن هذا لا تجوز المعارضة عليه ، ولا هو مما يقابل بالأعواض ، فهذا أصل ، والصواب جواز الأمرين للنص والقياس والمصلحة ; فإن الله تعالى أمرنا بالوفاء بالعقود ومراعاة العهود ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم { أن المسلمين على شروطهم } ، وأخبر أن : { الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا } ، وقول من منع الصلح على الإقرار : " إنه هضم للحق " ليس كذلك ، وإنما الهضم أن يقول : لا أقر لك حتى تهب لي كذا وتضع عني كذا وأما إذا أقر له ثم صالحه ببعض ما أقر به فأي هضم هناك ؟

وقول من منع الصلح على الإنكار : " إنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه " فجوابه أنه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف إقامة البينة كما تفتدي المرأة نفسها من الزوج بما تبذله له ، وليس هذا بمخالف لقواعد الشرع ، بل حكمة الشرع وأصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك .

فهاتان صورتان : صلح عن الدين الحال ببعضه حالا مع الإقرار ومع الإنكار .

[ ص: 278 ] الصورة الثالثة : أن يصالح عنه ببعضه مؤجلا مع الإقرار والإنكار ، فهاتان صورتان أيضا ، فإن كان مع الإنكار ثبت التأجيل ، ولم تكن له المطالبة به قبل الأجل ; لأنه لم يثبت له قبله دين حال فيقال : لا يقبل التأجيل ، وإن كان مع الإقرار ففيه ثلاثه أقوال للعلماء ، وهي في مذهب الإمام أحمد ، أحدها : لا يصح الإسقاط ولا التأجيل ، بناء على أن الصلح لا يصح مع الإقرار وعلى أن الحال لا يتأجل . والثاني : أنه يصح الإسقاط دون التأجيل ، بناء على صحة الصلح مع الإقرار . والثالث : أنه يصح الإسقاط والتأجيل ، وهو الصواب ، بناء على تأجيل القرض والعارية ، وهو مذهب أهل المدينة ، واختيار شيخنا .

وإن كان الدين مؤجلا فتارة يصالحه على بعضه مؤجلا مع الإقرار والإنكار ، فحكمه ما تقدم . وتارة يصالحه ببعضه حالا مع الإقرار والإنكار ، فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال أيضا : أحدها : أنه لا يصح مطلقا ، وهو المشهور عن مالك ; لأنه يتضمن بيع المؤجل ببعضه حالا ، وهو عين الربا ، وفي الإنكار المدعي يقول : هذه المائة الحالة عوض عن مائتين مؤجلة ، وذلك لا يجوز ، وهذا قول ابن عمر .

والقول الثاني : أنه يجوز ، وهو قول ابن عباس ، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى وغيره ، واختاره شيخنا ; لأن هذا عكس الربا ; فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل ، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل ، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل ، فانتفع به كل واحد منهما ، ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا ، فإن الربا الزيادة وهي منتفية ههنا ، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا ، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : " إما أن تربي وإما أن تقضي " وبين قوله : عجل لي وأهب لك مائة ، فأين أحدهما من الآخر ؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح .

والقول الثالث : يجوز ذلك في دين الكتابة ، ولا يجوز في غيره ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة . قالوا : لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى الله ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، ولا ربا بين العبد وبين سيده ; فالمكاتب وكسبه للسيد ، فكأنه أخذ بعض كسبه وترك له بعضه ، ثم تناقضوا فقالوا : لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين ; لأنه في المعاملات معه كالأجنبي سواء .

فيا لله العجب ، ما الذي جعله معه كالأجنبي في هذا الباب من أبواب الربا وجعله معه بمنزلة العبد القن في الباب الآخر ؟ [ ص: 279 ] فهذه صورة هذه المسائل وأصولها ومذاهب العلماء فيها ، وقد تبين أن الصواب جوازها كلها ; فالحيلة على التوصل إليها حيلة على أمر جائز ليست على حرام .

التالي السابق


الخدمات العلمية