الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الرجوع في الهبة [ ص: 39 ] قال : ( وإذا وهب هبة لأجنبي فله الرجوع فيها ) وقال الشافعي : لا رجوع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام { لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده } ولأن الرجوع يضاد التمليك ، والعقد لا يقتضي ما يضاده ، بخلاف هبة الوالد لولده على أصله ; لأنه لم يتم التمليك ; لكونه جزءا له . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها } أي ما لم يعوض ; [ ص: 40 ] ولأن المقصود بالعقد هو التعويض للعادة ، [ ص: 41 ] فتثبت له ولاية الفسخ عند فواته ، إذ العقد يقبله ، والمراد بما روي نفي استبداد والرجوع وإثباته للوالد ; لأنه يتملكه للحاجة وذلك يسمى رجوعا . وقوله في الكتاب فله الرجوع لبيان الحكم ، أما الكراهة فلازمة لقوله عليه الصلاة والسلام { العائد في هبته كالعائد في قيئه } وهذا لاستقباحه .

التالي السابق


( باب الرجوع في الهبة ) لما كان حكم الهبة ثبوت الملك للموهوب له ملكا غير لازم حتى يصح الرجوع احتاج إلى بيان مواضع الرجوع وموانعه [ ص: 39 ] وهذا بابه ( قوله : وإذا وهب هبة لأجنبي فله الرجوع فيها ) قال صاحب النهاية : هذا اللفظ يحتاج إلى القيود : أي إذا وهب هبة لأجنبي أو لذي رحم ليس بمحرم أو لذي محرم ليس برحم وسلمها إليه ، ولم يقترن بها ما يمنع الرجوع من الزوجية والعوض والزيادة وغيرها حالة عقد الهبة فله الرجوع فيها إما بالقضاء أو بالرضا من غير استحباب بل هو مكروه ، وبين كون هذه القيود محتاجا إليها بما لا مزيد عليه . وقال صاحب العناية : والمراد بالأجنبي هاهنا من لم يكن ذا رحم محرم منه ، فخرج منه من كان ذا رحم وليس بمحرم كبني الأعمام والأخوال ومن كان محرما ليس بذي رحم كالأخ الرضاعي ، وخرج بالتذكير في قوله : " وهب " و " أجنبي " الزوجان ، ولا بد من قيدين آخرين : أحدهما وسلمها إليه . والثاني ولم يقترن من موانع الرجوع شيء حال عقد الهبة ، ولعله تركهما اعتمادا على أنه يفهم ذلك في أثناء كلامه انتهى .

أقول : في قوله وخرج بالتذكير في قوله " وهب " و " أجنبي " الزوجان خلل فاحش ، إذ لو قصد بالتذكير في قوله وهب وأجنبي إخراج المؤنث لخرج من هذه المسألة كل هبة كانت بين المرأتين ، وكل هبة كانت بين الرجل والمرأة ، وإنما بقي منها الهبة التي كانت بين الرجلين ، ولا يخفى فساد ذلك ، بل الصواب أن التذكير الواقع في هذه المسألة ليس لإخراج المؤنث ، وإنما هو للجري على ما هو المتعارف في أمثالها من تغليب الذكور على الإناث كما في خطابات الشرع على ما تقرر في علم الأصول ، وأن الزوجين إنما يخرجان من هذه المسألة بثاني القيدين اللذين اعترف الشارح المزبور أيضا بأنه لا بد منهما ، واعتذر عن تركهما بما ذكر وذلك إن لم يقترن من موانع الرجوع شيء حال عقد الهبة ، إذ لا شك أن الزوجية من جملة تلك الموانع ، ثم أقول : لمانع أن يمنع انفهام القيد الأول من ذينك القيدين في أثناء كلام القدوري في مختصره . والعهدة في هذه المسألة على القدوري ; لأنها من مسائل مختصره فتأمل .

( قوله : ولنا قوله : عليه الصلاة والسلام { الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها } أي ما لم يعوض ) لا يقال : يجوز أن يكون المراد منه ما قبل التسليم فلا يكون [ ص: 40 ] حجة . لأنا نقول : لا يصح ذلك ; لأنه أطلق اسم الهبة على المال ، وذا لا يكون قبل القبض والتسليم ، ولأنه عليه الصلاة والسلام جعله أحق بها ، وهذا يقتضي أن يكون لغيره فيها حق ، وذلك إنما يكون بعد القبض ، ولأنه لو كان كذلك لخلا قوله : ما لم يثب منها عن الفائدة إذ هو أحق وإن شرط العوض قبله كذا في النهاية والكفاية ، وهكذا ذكر في العناية أيضا إلا الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المذكورة في الجواب ، وقد أشار في الكافي أيضا إلى تلك الوجوه الثلاثة حيث قال : ولنا قوله : عليه الصلاة والسلام { الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها } أي لم يعوض ، والمراد حق الرجوع بعد التسليم ; لأنها لا تكون هبة حقيقة قبل التسليم وإضافتها إلى الواهب باعتبار أنها كانت له كرجل يقول أكلنا خبز فلان الخباز وإن كان اشتراه منه ، ولأنه أثبت للواهب حقا أغلب من حق الموهوب له ، ولا يجتمع الحقان ، وحق الواهب أغلب لا بعد تمام الهبة بالقبض ، إذ لا حق للموهوب له قبل القبض ، ولأنه مد هذا الحق إلى وصول العوض إليه ، وذا في حق الرجوع بعد التسليم . انتهى .

أقول : في الوجه الأول والثاني من تلك الوجوه بحث . أما في الأول فلأن عدم صحة إطلاق اسم الهبة على المال حقيقة قبل القبض والتسليم ممنوع ، فإن القبض ليس من أركان عقد الهبة بل هو شرط تحقق حكمه كما تقرر فيما مر فكان خارجا عن حقيقة الهبة . ولئن سلم عدم صحة إطلاق اسم الهبة على المال حقيقة قبل القبض فلم لا يجوز إطلاق ذلك عليه مجازا باعتبار ما يئول إليه كما في نحو { أراني أعصر خمرا } وقد جوزت إضافتها إلى الواهب باعتبار أنها كانت له وهذا ليس بأبعد من ذاك . وأما في الثاني فلأنه قد تقرر في علم العربية أنه يجوز استعمال أفعل مجردا عن معنى التفضيل مؤولا باسم الفاعل أو الصفة المشبهة حال كونه عاريا عن اللام والإضافة ومن ، ومنه قوله تعالى { وهو أهون عليه } إذ ليس شيء أهون على الله تعالى من شيء فلفظ أحق في هذا الحديث المذكور عار عن الأمور الثلاثة المزبورة ، فلم لا يجوز أن يعتبر مجردا عن معنى التفضيل فيصير المعنى الواهب حقيق بهبته ما لم يثب منها فلا يقتضي أن يكون لغيره فيها حق .

نعم الظاهر الشائع أن تكون صيغة أفعل مستعملة في معنى التفضيل ، لكن المعترض مانع مستند باحتمال أن لا يكون معنى التفضيل مقصودا في الحديث المذكور الذي استدلوا به على جواز الرجوع في الهبة بعد القبض ، ولا يخفى أن الاحتمال كاف في مقام المنع قادح في مقام الاستدلال ، على أن لقائل أن يقول : لو كان معنى التفضيل مقصودا في الحديث المذكور فصار المراد أن يثبت للواهب في هبته حق أغلب من حق الموهوب له فيها لما كان الرجوع عنها مكروها ، ولما قال النبي عليه الصلاة والسلام { العائد في هبته كالعائد في قيئه } ; لأن الرجوع حينئذ يصير في حكم تفضيل الفاضل وترجيح الغالب ، فالوجه تجريد أحق في الحديث المذكور عن معنى التفضيل تطبيقا للمقامين وتوفيقا للكلامين فتأمل . ثم إن بعض الفضلاء قدح في الوجه الثالث أيضا من تلك الوجوه حيث قال : هذا يجر إلى القول بمفهوم الغاية وقد نفاه الشارح : يعني صاحب العناية . أقول : صرح المحقق التفتازاني في التلويح في باب المعارضة والترجيح بأن مفهوم الغاية متفق عليه فكيف ينفيه الشارح المزبور .

( قوله : ولأن المقصود بالعقد هو التعويض للعادة ) ; لأن العادة الظاهرة أن الإنسان يهدي إلى من فوقه ليصونه بجاهه ، وإلى من دونه ليخدمه [ ص: 41 ] وإلى من يساويه ليعوضه انتهى . وقال بعض الفضلاء : المفهوم من هذا التقرير خلاف المدعى حيث خص التعويض بالمتساويين والمدعى كان أعم انتهى . وقد سبقه إلى هذا الدخل الشارح العيني حيث قال بعد نقل كلام صاحب العناية : قلت : فعلى هذا ليس له الرجوع إلا في الثالث ، ومع هذا له الرجوع في الكل ما لم يعوض انتهى . أقول : يمكن توجيه ما ذكر في العناية بأن المراد بالتعويض في قوله وإلى من يساويه ليعوضه هو التعويض المالي ، وبالتعويض في قوله إن المقصود بالعقد هو التعويض ما يعم التعويض بالصيانة وبالخدمة وبالمال ، فالمخصوص بالمتساويين هو التعويض المالي ، وأما التعويض المطلق فيوجد في الأعلى والأدنى والمساوي ، والتعليل المذكور يشمل الصور الثلاث فلا يضره كون المدعى أعم فإنه يدل على جواز الرجوع في الكل ما لم يعوض تأمل تفهم .

واعلم أن صاحب العناية ليس بمنفرد في ذلك التقرير بل سبقه إليه صاحب النهاية وغيره فقال في النهاية : توضيحه أن مقصوده من الهبة للأجانب العوض والمكافأة ; لأن الإنسان يهدي إلى من فوقه ليصونه بجاهه وإلى من دونه ليخدمه وإلى من يساويه ليعوضه ، ومنه يقال : الأيادي قروض انتهى . ثم إن صاحب التسهيل اعترض على أصل هذا الدليل حيث قال : أقول : على هذا التعليل لو قيد بنفي العوض ينبغي أن يمتنع الرجوع ; لأنه ظهر أن العوض ليس بمقصود ، ولكن قوله عليه الصلاة والسلام " ما لم يعوض " يدل على جواز الرجوع وإن قيد بنفي العوض . انتهى .

أقول : يمكن أن يجاب عنه بإنا لا نسلم ظهور أن العوض ليس بمقصود عند التقييد بنفي العوض ، فإن التعويض من الموهوب له ليس بإيجاب الواهب إياه وإلغائه بل بحسب مروءة الموهوب له ، وجري العادة على التعويض ، وبنفي الواهب التعويض لا يفوت ذلك ، بل ربما يكون نفيه إياه سببا لهيجان مروءة الموهوب له ، ويجوز أن يقصد ذلك الواهب بنفيه إياه ذلك المعنى . ولئن سلمنا ظهور ذلك فنقول : الوجه المذكور علة نوعية لإثبات نوع الحكم ، وذلك لا يستلزم الاطراد في كل صورة كما قالوا مثل هذا في الوجه الثاني من وجهي عدم جواز هبة المشاع فيما يقسم فيما مر فتذكر . ( قوله : لأنه يتملكه للحاجة وذلك يسمى رجوعا ) أي باعتبار الظاهر وإن لم يكن رجوعا في الحكم ، كذا في الكافي وعامة الشروح وقال بعض الفضلاء : بل شراء إضرابا عن قوله ، وإن لم يكن رجوعا في الحكم . أقول : ليس هذا بصحيح ; لأن المراد بتملك الوالد هاهنا تملكه بطريق الاتفاق على نفسه لا بطريق الشراء ; لأن الشراء مما لا مساس له بالهبة فلا يناسب تأويل الحديث المزبور قطعا ; ولأن قولهم للحاجة يعين الأول ; لعدم الاحتياج إلى الحاجة في تملكه بالشراء ، على أنهم صرحوا بالأول حيث قال في البدائع : فإنه يحل له أخذه من غير رضا الولد ولا قضاء القاضي إذا احتاج إليه للإنفاق على نفسه انتهى .

وقال في الكفاية من شروح هذا الكتاب فإنه يستقل بالرجوع فيما يهب لولده عند احتياجه إلى ذلك للإنفاق على نفسه انتهى إلى غير ذلك من المعتبرات . ( قوله : وقوله في الكتاب فله أن يرجع لبيان الحكم ، أما الكراهة فلازمة لقوله عليه الصلاة والسلام { العائد في هبته كالعائد في قيئه } وهذا لاستقباحه ) قال الشارح العيني : قيل قد استدل المصنف على كراهة الرجوع بهذا الحديث الصحيح ثم يشترطون [ ص: 42 ] في جوازه الرضا أو القضاء ، فإذا كان الرجوع بالرضا فلا كلام فيه ولا إشكال ، وأما إذا كان بالقضاء فكيف يسوغ للقاضي الإعانة على مثل هذه المعصية ؟ وكيف تكون إعانته على المعصية التي هي معصية أخرى منتجة للجواز ؟ وإذا كان الرجوع قبل القضاء غير جائز فبعده كذلك ; لأن قضاء القاضي لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال ، وإنما قضاء القاضي إعانة لصاحب الحق على وصوله إلى حقه ، فإذا كان الرجوع في الهبة لا يحل لا يصير بالقضاء حلالا ، وقد اعترف المصنف بعد ذلك بأن في أصل الرجوع في الهبة وهاء فكيف يسوغ للقاضي الإقدام على أمر واه مكروه . انتهى كلامه .

أقول : هذا الإشكال إنما نشأ من عدم الوقوف على أن محل القضاء فيما نحن فيه ماذا ، فإن الذي كان مكروها إنما هو نفس الرجوع عن الهبة لا جواز الرجوع عنها ، والذي يكون محلا للقضاء إنما هو جواز الرجوع عنها لا نفس الرجوع ، فإن القاضي لا يقول للواهب في حكمه له عند الترافع مع الموهوب له ارجع عن هبتك ، بل يقول لك الرجوع عنها مع كراهة فيه ، وليس في قضائه هذا إعانة على أمر مكروه بل فيه إجراء حكم شرعي على أصل أئمتنا ، وهو جواز الرجوع عن الهبة مع كراهة فيه ، فإن رجع الواهب عنها بعد ذلك كان مرتكبا للمكروه بطوع نفسه لا بإعانة القاضي عليه ، وإن امتنع الموهوب له بعد ذلك عن دفعها إليه يلزمه القاضي دفعها إليه . وليس فيه أيضا إلزام المكروه ; لأن دفع الهبة إلى الواهب ليس بمكروه بل هو واجب على الموهوب بعد أن رجع الواهب عنها بلا مانع عن الرجوع ، وإن كان نفس الرجوع مكروها . ثم إن القاضي لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال ، ولكن يجعل الضعيف قويا والمختلف فيه متفقا عليه بتعلق حكمه بذلك كما تقرر في موضعه . ثم إن الضعيف إذا كان ناشئا من اختلاف العلماء في مسألة لا يمنع القاضي عن الإقدام على الحكم بها سيما إذا وافق مذهبه وما نحن فيه من هذا القبيل كما ترى فاندفع الإشكال المذكور بحذافيره ، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام .




الخدمات العلمية