الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              الظلم وانعكاساته على الإنسانية (رؤية شرعية)

              الأستاذ الدكتور / عثمان محمد غنيم

              تقديم

              عمر عبيد حسنة

              الحمد لله، الذي جعل رسالة الأمة المسلمة الأساس في هذه الحياة: تمثل العدل وتجسيده في حياتها، إثارة للاقتداء، ووسيلة لإيصاله للناس، وإغرائهم بالتزامه، وتحذيرهم من الظلم، وبيانا لعواقبه، على المستويات المتعددة، فقال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ... ) (البقرة:143)، والوسطية هنا تتمحض بمعنى التوازن والاعتدال في السلوك والعدل مع الناس، ذلك أن مهمة الأمة المسلمة في الحياة تجسيد العدل ونشره وإبلاغه وحمايته في المجتمع، ومواجهة الظلم ومعالجة أسبابه ومحاصرة آثاره، وبيان مخاطره على الفرد والمجتمع، حيث لم تقتصر مسؤولية الأمة المسلمة عن إقامة العدل في ذاتها ومحاولة إشاعته بين الناس في الحاضر، وإنما تجاوزت تلك المسؤولية إلى الشهادة على الالتزام به ومدى الممارسة لخروقاته واختلالاته وحيدته عن النهج الصحيح في الماضي أيضا، وبيان عوامل السلامة، التي تؤهل لعبور المستقبل. [ ص: 5 ]

              وبذلك، فالوسطـية لا تعـني التعادلية، أو الحياد السلبي، ومسك العصا من المنتصف -كما يقولون- كما أنها لا تعني التنازل عن القيم وتجاوز الضوابط الشرعية وإلغاء مقومات (الذات) لإرضاء (الآخر)، باسم التسامح، كما يتوهمها البعض، ويدعو إليها ويتلاعب بمضامينها ومصطلحاتها أعداء هذا الدين، ويحاول جر المسلمين إليها؛ لأن في ذلك تحولا عن العدل إلى الظلم وعن الإسلام إلى الجاهلية.

              فالله تعالى أنزل الكتاب ليشكل منهج الوسطية وصراطها المستقيم، ووضع الميزان ليكون معيارا للوسطية، ليقوم الناس بالعدل والقسط في حياتهم والحيلولة دون الشطط والهوى، وكان ذلك فعل النبوة ومن هم على طريقها تاريخيا، قال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25)، وبالكتاب والميزان يتأسس العدل، وتحمى الحقوق، وتتحقق وقاية المجتمع من الفساد الناتج عن الظلم وشيوع المظالم في المجالات المتعددة، ذلك أن إشكالية الظلم وما يتولد عنها من الاستبداد والاستعباد والتأله والاغتصاب والإكراه والتسلط والهيمنة وبطر الحق وغمط الناس.... إلخ، كانت ولا تزال الأصل والمحور الأساس للشر، بكل أشكاله، وشقوة الإنسان وإهدار كرامته وإلغاء إنسانيته، لذلك جعل الإسلام المسؤولية عن وقوع المظالم مسؤولية تضامنية شاملة لكل أفراد الأمة؛ لأن آثار الظلم وشروره مركبة وممتدة، فهي منبع للفتن ومولد لها، وإصاباته سوف تلحق الجميع بحيث لا ينجو أحد منها. [ ص: 6 ]

              لذلك فعصمة المجتمع وتحصينه ووقايته من الظلم، بكل تمظهره، هي مسؤولية الجميع، يقول تعالى: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ... ) (الأنفال:25) ؛ ووقاية المجتمع من الفتن والاضطراب والفوضى إنما تتحقق باستنفار أفراده جميعا، كل من موقعه، للمواجهة والاضطلاع بمسـؤوليته، سواء في ذلك معـالجـة أسباب الظـلـم للوقـاية منـه، أو الأخذ على يد العابثين الظالمين في المجالات المتعددة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية، وممارسة الكهانات الدينية، وحماية السفينة (المجتمع) من الخرق والفسوق، الذي يغرق الجميع ويهلك الجميع، أو بالتصدي لمعالجة آثاره وتأثيراته، وعدم التوهم بأن النجاة إنما تتحقق بإيثار العافية والانسحاب من الحياة وأنشطتها وعدم ممارسته؛ ذلك أن رذاذه يصيب الجميع، بكل ما يتولد عنه من تداعيات وفتن.

              فالفتن المتعاظمة المتولدة عن ممارسة الظلم، وما ينشأ عنها من ردود الأفعال، السوية وغير السوية، من قبل الناس، التي بات يعج بها المجتمع وتكاد تتمركز بعالم المسلمين خاصة لم يعد ينج منها أحد؛ هي فتن لـما تقتصر على المتسببين بها والنافخين بكيرها وإنما باتت تعم الجميع، فالبلاء يعم والرحمة تخص، كما يقولون، فهلا تدرك الأمة بعمومها مسؤوليتها التقصيرية، وخاصة الصالحين منها، الذين يشكلون الطائفة القائمة على الحق ويمثلون خميرة العودة بالأمة إلى العدل والنهوض على أساس منهج الكتاب ومعيار الميزان التزاما [ ص: 7 ] بقوله تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25)؟

              فورثة النبوة، حمـلـة عـلـم الـدين، أكثر مسـؤولية تجـاه البيـان وتمثـل العدل وتجسيده في حياتهم، ونشره بين الناس وفق قيم الكتاب ومعايير الميزان -كما أسلفنا- وتحذيرهم من مخاطر وفتن ممارسته أو الحيدة عنه.

              والصلاة والسلام على معلم الناس الخير والحق والعدل، الذي كانت سيرته تجسيدا لاستحقاقات الكتاب والميزان، في تربية أصحابه وبناء مجتمع القدوة، الذي ورث رسالة النبوة التاريخية وأورثها لأمته، لتمضي بحمل رسالة الوسطية والعدالة وإبلاغها للناس وتحذيرهم من الشر والظلم، والوقاية منه؛ الذي بين أن السكوت عن الظلم والقعود عن مواجهته بالقضاء على أسبابه ومعالجة آثاره مؤذن بخراب العمران، بكل أبعاده، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية، وسبب لانتزاع البركة، واستجلاب للعقاب الجماعي، الذي لا ينجو منه أحد، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) (أخرجه الترمذي).

              وبعد:

              فهذا "كتاب الأمة" الرابع والستون بعد المائة: "الظلم وانعكاساته على الإنسانية.. رؤية شرعية"، للأستاذ الدكتور عثمـان محمـد غنيـم، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في سعيها الدائب لإعادة بناء [ ص: 8 ] الإنسـان العـدل ومعـاودة إخـراج الأمـة الوسـط في ضـوء هدايات الوحي، في الكتاب والسنة، وتجليات ذلك في السيرة النبوية ومسيرة خير القرون، ومحاولة إحياء المهمة الرسالية للأمة بإقامة العدل في ذاتها وحمله وإشاعته في الناس، وبناء الجيل والذي يشكل الحراسة الأمينة للمسيرة ويقي المجتمع من الإصابات وينبهه إلى المخـاطر والمظـالـم، التي قـد ينزع إليهـا بعـض أفراده، فيظلم نفسه أو يظلم غيره، بسبب الحيدة عن منهج النبوة القويم وتغلب نزغات الشيطان، ونمو الغرائز السلبية، التي تؤدي إلى الظلم والفساد وسفك الدماء: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) (البقرة:30)، ذلك أن الإنسان مؤهل لفعل الخير والعدل أو الانحراف والفساد والظلم: ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) / (الشمس:7-10)، ( إن الإنسان لظلوم كفار ) (إبراهيم:34).

              فقيم الدين إنما شرعت في الأساس لإقامة الدنيا على منهج العدل واستنقاذ الإنسان، الذي هو في النهاية محل رسالة النبوة، من النزوع إلى الظلم الـمورث للشقـوة في الدنيا والآخـرة، والسـير به إلى شـاطـئ الأمـان، بحيـث لا يظلم ولا يظلم.

              ولعلنا نقول: إن إشكالية الإنسـان تاريخيا ومحـور إصـاباته ومصـدر شقـوته كانت ولا تزال في غيـاب العدل وشيوع الظلم، لذلك فإن محورية العدل والظلم، أو معادلة العدل والظلم، أو جدلية العدل والظلم، رافقت [ ص: 9 ] مسـيرة الإنسـان على الزمـن، وكانت ولا تزال هي الهـاجـس للنبـوة وورثتـها في تاريخها الطويل، ولدعـاة الإصـلاح وفـلاسـفـة الحيـاة والحضارات المختلفة في كل زمان ومكان.

              فلقد تمحورت جهود النبوة حول معالجة إشكالية الظلم، سواء في ذلك:

              معالجة أسبابه بالتربية وتنمية النزوع إلى الخير، والترغيب في الثواب على فعله، ولجم نوازع الظلم والشر، والترهيب من الإقدام عليه، ومسؤولية الإنسان عنه، وبناء القناعة بأن الرقابة الذاتية والطهارة النفسية هي الآثار الأولى للإيمان بالله، ذلك بأن هذا الإيمان يمنح صاحبه الاستناد والاستقواء بالقوة المطلقة، والاستمداد منها القدرة على الصمود وتحقيق العدالة، فالله هو المنتقم الجبار، الذي لا يضيع عنده مثقال الذرة،

              أو التشريعات الملزمة والضوابط والمؤيدات من خارج النفس والعقوبات، التي تشكل الجزاء عن فعل الظلم، كما تحقق النكال والتحذير والردع للمجتمع من الوقوع في الظلم، أو السماح به والسكوت عنه، يقول تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة:38) ؛ لأن الظلم مهلك للبيئة والعمران والإنسان والسلطان والحرث والنسل -كما أسلفنا- وحتى السنن الطبيعية والأقدار الناظمة لمسيرة الكون تختل بممارسة الظلم، فيحبس المطر، وتسود المجاعات، وتشتد الفتن، ويعم الاستبداد والاستعباد، وتكثر الحروب، ويتدافع الظلمة، ويعم الفساد كل [ ص: 10 ] جوانب الحياة: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (الروم:41).

              فالنبوة في المحصلة النهائية، إنما جاءت لإلحاق الرحمة بالإنسان، أي إنسان، وتوفير كرامته، وحماية حقوقه، ورفع مظالمه؛ لذلك فتعاليم النبوة هي أشبه بمواثيق الخلاص من الظلم والظالمين، سواء في ذلك تحريم الظلم، وتوعد أهله بأشد العذاب، أو بيان آثاره الفاسدة في الفرد والمجتمع والأمة والحضارة، ودوره في إهدار إنسانية الإنسان، وإعداد وتربية الإنسان الصالح، وإكسابه الصفات الخيرة المطلوبة لمقاومة الظلم، من الصبر والاحتساب والتحمل والإعداد والاستعداد، والمجاهدة والأمل في الانتصار على الظلم، واليقين من عقاب الظلمة ومصيرهم الوخيم، وعدم اليأس والقنوط والسقوط والاستسلام أمام سطوة الظالمين وشدة بأسهم، حتى عند افتقاد أي وسيلة للمقاومة في أشد المراحل ضعفا، مرحلة: "أضعف الإيمان"، حيث عندها لا يسقط المؤمن وإنما يحتفظ بالحق والخير والإيمان في قلبه، ويكابد ويجاهد لحماية هذا الإيمان، ويصبر ويعمل حتى تتاح الفرصة لمعاودة الانطلاق واستئناف المهمة في نشر العدل والحق والخير والمساواة والحرية للناس، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان، والفرار إلى الله، والإيمان به وبقدرته للخلاص من تأله الإنسان على الإنسان، يقول تعالى: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (النحل:106)، ويقول الرسول، عليه الصلاة والسلام: ( من رأى منكم منكرا [ ص: 11 ] فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) (أخرجه مسلم).

              وهذا الاحتفاظ بالعقيدة والولاء الداخلي للإيمان، من المجاهدة والمعاناة من الازدواجية والمكابدة للظلم، وعدم الرضوخ والاستسلام، والتحضير للفرصة المتاحة لإزاحة الظلم وتوفير الحرية.

              وقد يكون من المطلوب أن نوضح هنا أن الإسلام لم يقبل للإنسان حالة الذل والعبـودية والإكراه وإهدار إنسانيته، كما لم يقبل مسالك التعسف والظلم وقد كرمه الله سبحانه: ( ولقد كرمنا بني آدم ) (الإسراء:70)، كما لم يقبل للمسلم أن يعيش حالة الاستضعاف والخنوع وقد نعى القرآن سكونية المستضعفين في الأرض واستنهضهم، ولم يقبل معذرتهم وخضوعهم للظـلم والجـبروت، مهمـا كان، وقـد عـرض القرآن لحالهم، فقال تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) (النساء:97).

              وعلى الرغم من أن الظالمين والمتألهين التقت مصالحهم وتحالفوا وضيقوا أرض الله الواسعة وفرضوا الحصار على الخلق، إلا أن الإنسان ومن خلال سنة التدافع الاجتماعي لا يعدم وسيلة للخروج، فالهجرة تاريخيا كانت ولا تزال أداة لمواجهة الظلم، ووسيلة لاستعادة القوة، وسبيلا للكسب الاقتصادي ومراغمة الأعداء والظالمين، فلقد اعتمدت في مراحل الدعوة الأولى، فكانت الهجرة إلى [ ص: 12 ] الحبشة، أرض الصدق والعدل: ( لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ) (ابن كثير، البداية والنهاية)، وكانت الهجرة الكبرى منعطفا في تاريخ الإنسانية عامة ووسيلة لإقامة المجتمع والدولة الإسلامية في المدينة المنورة، يقول تعالى: ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) (النساء:100).

              ويبقى مرتكز ذلك كله الإيمان بالله، القوة المطلقة، القادرة على اقتلاع الظلم، والانتقام من أهله، وجزائهم الجزاء الأوفى، وتبصير المظلومين بسبيل الخروج والأمل، الذي يشكل لهم الدرع الواقية، والتيقن من تحقيق العدالة في عاقبة الأمور، إذ لا عبرة بالنتائج السريعة، التي يحرزها الظالم، فالعدالة المطلقة من المنتقم الجبار قادمة حتى لو فاتت العقوبة في الدنيا الفانية، فإن العقاب ينتظرهم في الحياة الباقية.

              ورغم أن آيات القرآن جميعا تتمحور حول معالجة إشكالية العدل والظلم، ابتداء من تأسيس عقيدة التوحيد، التي تعني المساواة ونسخ الجبابرة والمتألهين، وامتدادا بكل استحقاقاتها في المجالات المختلفة، من أوائل التنزيل حتى خواتيمه، فقد يكون في إثبات هذه الآيات من سورة أبي الأنبياء إبراهيم، عليه السلام، أو هذا المشهد، والبلاغ القرآني، أو هذه اللوحة النابضة بالحياة، نافذة للإطلالة منها وتأملها وتدبرها ووعيها وإبصار رسالة القرآن في بناء العدل ومواجهة الظلم، يقول تعالى: [ ص: 13 ]

              ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء * وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال * وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال * فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام * يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار * وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد * سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب * هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ) (إبراهيم:42-52).

              لـذلك، كانت النبـوة وتعاليمـها وتربيتها وتشريعاتها ودعوتها واتباعها ثقيلة وثقيلة جدا على الظلمة، من الفراعنة والكبراء وأصحاب السلطان والمتـألـهـين والمـلأ والفـجـار والفـاسـقـيـن والمـترفين والقوارين من أصحاب الظلم الاجتماعي والأموال المكتسبة بغير الحق، والكهانات الدينية، التي وظفت الدين للتسلط والتعالي على عباد الله، وكانت المدافعة دائمة بين الحق والباطل، والعدل والظلم، والخير والشر، والنبوة والطواغيت، بكل الوسائل [ ص: 14 ] وعـلى الأصـعـدة والمجـالات المخـتـلـفـة، ولعل ذلك هو ميدان المدافعة الحضارية الحقيقي.

              ولم يهدأ ولن يهدأ للظالمين والطغاة والمستبدين والكبراء وجميع المتألهين بال، طالما أن للنبوة وتعاليمها حضورا في الأمة: ( ما علمت لكم من إله غيري ) (القصص:38)، ( أنا ربكم الأعلى ) (النازعات:24)، ( إنهم أناس يتطهرون ) (الأعراف:82)، لذلك نجد التواطؤ والتشويه والاتهام ومحاولات الاختراق والابتزاز والتآمر: ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) (التوبة:10)، على النبوة وتعاليمها مستمر: ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة:217)، يستخدمون كل الوسائل والفلسفات، بما في ذلك الصناعات المزيفة من المنافقين، ومحاولة الاختراقات المستمرة لأتباع النبوة، والتشويه والتحريف والمغالاة والتأويل الباطل والجاهل لتعاليمها من داخل الصف، يقول تعالى: ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) (آل عمران :72).

              وليس ذلك فقط، وإنما أيضا المحاولات المستمرة لاغتيالها من الداخل على يد بعض أهلها أو المندسين فيها، الذين تخصصوا في تشويه حقيقتها، لعزلها عن حياة الناس، وفصلها عن المجتمع والحياة، وعلى أحسن الأحوال إبقائها حبيسة الكهوف والمعابد والمنابر أو الزوايا والتكايا، بعيدا عن نبض الحياة وحركتها وتنظيم مساراتـها، أو جعـل التـدين شأنا فرديا يعيش داخل النفس، [ ص: 15 ] لا علاقة له بتوجيه دفة المجتمع أو ضبط نظام الحياة، وبذلك يفتح باب للظلم كبير، يدخل منه الكثير من الأرباب والمتألهين والمتسلطين تحت شتى الشعارات والعنـاوين والفلسفـات والمسـوغات؛ ولعله بات من المسلمات أن لا إنسان بلا دين، فإذا لـم يتجـه الوجـهة الصحيحة ويؤمن بالله الواحد فسوف يسقط في فخاخ الآلهة المزيفة، مهما اختلفت المسميات، ويبقى الظلم هو الظلم، ومهما كان لون راياته، ولو كانت خادعة إلى حين.

              فالظلم هو أصل الشرور كلها، وسوف لا يستقيم أمر الدنيا ويصلح حال الناس إلا بإيقاف المظالم في المجالات المتعددة، واسترداد إنسانية الإنسان، وحمـاية كرامـتـه، وتوفـير حريتـه، وحـفـظ حقـوقـه ومساواتـه، وهذا لا يتحقق إلا بـإيقـاف تسـلط البشـر وتخـلـيـص النـاس من عـبـادة العبـاد إلى عبادة خالق العباد.

              ونكاد نقول: إن جـدلية الحيـاة ومدافعاتـها جميعا كانت ولا تزال وسـتـبـقى بين الإيمـان والـكفر، ذلك أن الإيـمـان بالله الواحـد (الوحـدانية) أو "لا إله إلا الله" وإبطـال الآلهـة المزيفة وتأله الإنسان على الإنسان، كان ولا يزال السبيل إلى العدل والمساواة والتحرر وإيقاف الظلم، حيث لا أحد يعلو على أحد ويتميز عليه، الجميع سواء، فالتوحيد أو الوصول إلى حقيقة الوحدانية للخالق والرازق والمحيي والمميت والرحمن والرحيم والمنتقم والجبار، هو جهد النبوة الكبير لإعادة الناس إلى بشريتهم، والارتفاع بهم إلى خالق [ ص: 16 ] السموات والأرض، الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرما، فهو الحكم العدل.

              فالإيمان بيوم الدين، يوم الحساب، يوم الجزاء، يوم الإدانة للمجرمين الظالمين والثواب والجزاء لأهل العدل والحق والخير هو في الحقيقة إيمان بيوم العدالة المطلقة، التي لا تغيب عنها الحقيقة، لذلك نعاود القول: إن الإيمان بالنبوة وعطائها هو الدرع الواقية من اليأس والسقوط أمام الظلم والظالمين، وهو وقود المقاومة والمغالبة والرفض والإباء والإيمان بمواعيد الله أن العاقبة والوراثة الحضارية للمستضعفين والمظلومين، يقول تعالى: ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) (القصص:5-6).

              ولقد عرض الوحي مشاهد ومقاربات ونماذج تكاد تكون حية وناطقة ومتحركة أمام الناس في الدنيا لمصارع الظالمين ومهانتهم.

              لذلك كله رأى كثير من فقهاء الإسلام وأئمته وحملة رسالته أن مشروعية الجهاد في الإسلام لم تكن أبدا لإجبار الناس على الدخول في الإسلام، حيث ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256)، ( لكم دينكم ولي دين ) (الكافرون:6)، وإنما كانت لمواجهة الظلم والعدوان والإكراه والاغتصاب والاستعباد، والتحرير، ونسخ الآلهة المزيفة المتحكمة، والحيلولة دون الفتنة: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) (الأنفال:39)، وتحقيق حرية [ ص: 17 ] الاختيار، واسترداد إنسانية الإنسان، لدرجة جعل المسؤولية عن مواجهة الاغتصاب والإكراه والظلم مسؤولية جماعية تضامنية، وأن الآثار الخطيرة المترتبة على الظلم لا تقتصر على الظلمة، وإنما تطال الجميع؛ لأنهم تخلوا عن مسؤوليتهم في مواجهة الظلم، فهم مسؤولون مسؤولية تقصيرية، قال تعالى: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) (الأنفال:25) ؛ واتقاء الفتنة التي شبهها الرسول صلى الله عليه وسلم بالليل المظلم، الذي تضل فيه الرؤية ويلتبس الحق بالباطل وتهتز القيم ويصبح الحليم حيرانا، وبين لنا المخرج منها، إنـما يكون بالمبادرة بالعمـل الإيجـابي والجـهـاد لمقارعـة الظلمـة وإنـهاء الظـلـم وما يترتب عليه.

              يقول صلى الله عليه وسلم : ( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) (أخرجه مسلم).

              إن السماح للظلم بالامتداد مجلبة لسخط الله، وعصيان لشرعه، وقد جعل، عليه الصلاة والسلام، مقارعة الظلم من أعظم الجهاد، فقال: ( إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) (أخرجه الترمذي)، وجعل من يدفع روحه ثمنا لمقاومة الظلم يتبوأ مرتبة عالية من مقام الشهادة، ويأتي بعد سيد الشهداء، يقول الرسول، عليه السلام: ( سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله ) (مسند أبي حنيفة). [ ص: 18 ]

              لذلك نؤكد القول هنا: إن النبوة تمحورت، بمختلف تعاليمها، حول مقارعة الظلم ومعالجة أسبابه، وإن تربية النبوة وتشريعاتها جميعا قصدت إلى تأسيس منهج العدل بالتربية (الكتاب) وبالتشريع (الميزان) ليقوم الناس بالقسط: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25).

              لذلك نرى أنه طالما أن بؤر الظلم مستمرة فردود الفعل الغاضبة والمتجاوزة الحد والحق سوف تبقى مستمرة أيضا، ويعالج الانحراف بانحراف مماثل، فالإدانة والشجب والقمع لم يشكل علاجا، وإنما السبيل إلى العلاج والوقاية هو إشاعة العدل والمزيد من الحرية.

              فالعدوان، واحتلال الأرض، والعبث بالعرض، والتهجير، والتصفية العرقية، واستمرار استنزاف الثروات، والاستئثار بها وسرقة الخبرات، ومساندة أنظمة الاستبداد السياسي والدكتاتوريات، تحت شتى المعاذير، والعبث بالمناهج التعليمية وتطويعها واستخدامها لزرع حواس الخنوع والذل، وحذف الكثير من نصوص الوحي النبوي، التي تدعو للمجاهدة، باسم تجفيف المنابع، وتحويل عالم المسلمين إلى مخافر أمنية، واحتلال إعلامه، وإقصاء شعوبه عن مراكز القرار، وتحدي عقيدته، واستلاب ثقافته، واتهامه بالتوحش والرجعية، والسكوت عن إرهاب الدول وإقامة الكيانات العنصرية والطائفية والمذهبية، التي تمارس التمييز بكل أشكاله، وتطارد خصومها، وتحرمهم من ممارسة أبسط حقوقهم وعباداتهم وإقامة معابدهم، وغير ذلك كثير من الأسباب هي [ ص: 19 ] المقدمات، التي تشكل أسبابا للعنف والتطرف والإرهاب والتشدد وردود الأفعال الشاذة في كثير من الأحيان؛ لأن شريعة القوة والقهر والإفقار والحرمان تستدعي اللجوء إلى القوة بالضرورة والممارسات اليائسة، التي قد تتجاوز كل عقل وشرع.

              وقد يكون الأخطر من ذلك كله التعميم في الأحكام، أو العامية وعمى الألوان، وقيام بعض المتعصبين والحاقدين من الفلاسفة والكتاب والإعلاميين والسياسيين باتهام الإسلام بتفريخ الإرهاب، والمساواة بين الإرهاب والإسلام، بحيث أصبحوا يكادون يطلقون مصطلح (الإرهاب) على كل مسلم وأية جماعة، حتى ولو كانت ذات تاريخ واضح وملموس في تحقيق السلم الاجتماعي والعمل الخيري، ويستخدمونه بالحق وبالباطل للقضاء على الروح الإسلامية الواعية وترك عالم المسلمين لتحكم الآخرين، فالاتهام بدعم ومساندة الإرهاب وتشجيع الإرهاب أصبحت هي السيوف المسلطة على رقاب المسلمين، وكثيرا ما تحول هذه الظواهر في المحصلة النهائية لتستخدم في تصفية الحسابات الإقليمية والدولية، فتذهب إلى المعارك الخطأ؛ ويأتي الحل الأمني البعيد عن دراسة الأسباب الحقيقية، ليؤكد روح العداوة، التي تزيد في حجم التشدد والمغالاة، بدافع حماية (الذات).

              ولعل بعض التشريعات القانونية ومناهج التربية الوضعية، بطبيعتها، مشبعة بتوجهات واضعيها، فهي محملة بالتحيز وتحقيق مصالح المتسلطين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، حتى أصبحت تلك التشريعات الوضعية كنسيج [ ص: 20 ] العنكبوت، الذي لا يلتقط إلا الحشرات الضعيفة، أما الهوام والحشرات القوية، فتمزقه وتتجاوزه، فبدل أن تحقق هذه التشريعات العدل، الذي شرعت من أجله، أصبحت وسيلة للتسلط وتكريس الهيمنة أو الظلم.

              فالعدل الكامل سوف لا يتحقق إلا بتشريع بريء من التحيز والأهواء، لذلك فشريعة الله، خالق الناس جميعا، العالم بما يصلحهم ويحقق سعادتهم ويكفل مساواتهم، تتأبى عن التحيز والتمييز والظلم مهما حاول الظلمة دمغها والتنفير منها باصطناع كهانات دينية تمارس الظلم والاستغلال والابتزاز، والتقاط الصور المشوهة لبعض المتدينين أو لطبقات دينية حاولت احتكار فهم الدين، تاريخيا، والتحدث باسمه واستغلال الناس وظلمهم تحت شعارات العدل والحق والإيمان وبيع الخلاص وضمان الغفران في الآخرة مقابل ابتزاز مالي، حيث لم يقتصر التسلط عندها على دنيا الناس بل امتد للتحكم بآخرتهم أيضا، وهو أعتى أنواع الظلم.

              وهنا قضية قد يكون من الضروري لفت النظر إليها والتفكر فيها، وهي أن شريعة الله عدل كلها، ورحمة كلها، وحيثما وجد العدل وانتفى الظلم فثم شرع الله، إلا أن الإشكالية، كل الإشكالية، قد تكون التعسف في التطبيق وإنزال أحكام الشريعة على واقع الناس، بلا فقه وبصيرة، وعدم النظر إلى مدى استطاعتهم وتوفر شروط التكليف، والمجازفة أحيانا بإسقاطها على واقع فاقد للشروط المطلوب توفرها حتى يتحقق التكليف، حيث لا تكليف بدون استطاعة، وبذلك يتحول التعسف في التطبيق بالشريعة من العدل إلى الظلم، [ ص: 21 ] ومن الرحمة إلى العنت، ومن اللين واليسر إلى الشدة والعسر؛ لذلك فغلبة الحماس وغياب الإدراك عادة قد تؤدي إلى هذا الالتباس، فيصبح الادعاء بتطبيق شريعة الله لتحقيق العدل ونفي الظلم منفر وموقع في الظلم، وتضل أعمالنا ونحن نظن أننا نحسن صنعا، ولعل هذا من حالات الإيمان الملتبسة بظلم، المحتاجة إلى كثير من المراجعة والتدقيق والفقه، وكثيرا ما نتهرب من المراجعة والتقويم تحت ذريعة حسن النية وأن الناس يبعثون على نياتهم، وقد حذر الله من هذا الالتباس بقوله: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) (الأنعام:82).

              وتكاد قولة ابن القيم تلخص الأمر كله، يقول، رحمه الله: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها; فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث; فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل; فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه... " (إعلام الموقعين).

              ويقول أيضا: "إن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات. فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم، وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة، وأبين أمارة" (الطرق الحكمية). [ ص: 22 ]

              لذلك نعاود التأكيد هنا على أهمية التفريق بين قيم الدين، التي تؤسس للعدل والحرية ونسخ الظلم والاستبداد والاستعباد وتحقيق المساواة بين الناس، وبين صور التدين ومسالك بعض المتدينين، ومحاولة فك الالتباس بين (الذات) والقيمة، بين الصورة والحقيقة، وأن قيم الدين ليست قنطرة تستغل لممارسة الظلم والتعسف بدل نشر الرحمة والعدل والاستقامة وتحقيق الخلاص من الظلم وتسلط الإنسان على الإنسان.

              ولما كانت إشكالية الظلم والعدل هي الهاجس الدائم والمؤرق لمسيرة البشرية ومحل علاج لتعاليم الوحي وتكاليف أولي العزم من الرسل كان من الطبيعي والمنطقي، بعد هذه المسيرة البشرية الطويلة، أن يتمحض الدور الرسالي للنبوة الخاتمة حول تأسيس العدل وتأصيله بين الناس، حتى مع الخصوم والأعداء وغير المسلمين والناس جميعا في مجتمعات المسلمين، على مستوى الأفراد والمجتمع والدولة، حيث شعار المسلمين الكبير: ( لا إكراه في الدين ) ، والإكراه والغصب والمصادرة والإجبار هو أعتى أنواع الظلم، على مستوى العقيدة، أما على مستوى التعامل فميثاق المسلم قوله تعالى: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة:8)، وقوله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90)، وقوله تعالى: ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58)، وقوله تعالى: ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) (الأنعام:152). [ ص: 23 ]

              وأكثر من ذلك، فقد يقتضي الإيمان والالتزام بقيم العدل وتجنب الظلم الوقوف إلى جانب الكافر إن كان صاحب حق مقابل المسلم إذا كان ظالما، يقول تعالى: ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ) (النساء:107)، ويقول تعالى: ( ولا تكن للخائنين خصيما ) (النساء:105)، وقصة أسباب النزل توضح الأبعاد والدلالات المهمة لهذه النصوص والغائبة عن كثير من مسلمي اليوم.

              هذه خصيصة الأمة الوسط، ورسالتها الإنسانية، وهذا هو قدوتها ومثلها الأعلى صلى الله عليه وسلم الذي سن لنا أن ندور مع الحق حيثما دار، وندفع الظلم حيثما كان؛ وهذه هي ثمرة الجعل الإلهي والمهمة الأساس لأمة الرسالة الخاتمة، إنه التحقق بالعدل، وحمله إلى الإنسان، ومواجهة الظلم, والقيام بدور الشهود الحضاري، يقول تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) (عدلا) ( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143)، فاستحقاق الشهادة على الناس يتطلب تحقيق العدل في (الذات)، الذي يؤهل لحمله وتحقيقه بين الناس وإغرائهم به.

              لـذلك، فأمـة الرسـالـة الخاتـمـة، وريثـة النبوة، النبوة التي تمحورت رسالتها تاريخيا حول إشكالية العدل والظلم، هي التي ناط الله بها الشهادة على الناس، بإبـلاغهـم منهـج العـدل والشهـادة عـلى مـدى استـجابتهم له أو خروجهم عليه.

              فهي تشهد على مسيرة الأمم التاريخية، وتصوب الرؤى الدينية وما لحق بالتدين من علل، وتبين الانحراف والتحريف، يقول تعالى: ( وأنزلنا إليك [ ص: 24 ] الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة:48)، فالهيمنة هي الرقابة وتبيان مواطن الانحراف؛ وتشهد على حاضر العالم بإبلاغه رسالة الحق والعدل، وتبين مواقع مجافاته لشرع الله وتعاليم النبوة، وتحذر من مخاطر ذلك: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) ؛ وتشهد على سلامة التوجه صوب المستقبل ببيان طريقه الآمن وكيفية اجتيازه بتوازن واعتدال؛ وتشهد على الناس يوم الدين، يوم الإدانة والدينونة والحساب ( ويوم يقوم الأشهاد ) (غافر:51)، بأنها أبلغتهم رسالة الوحي وتعاليم النبوة، في الحياة الدنيا، وحذرتهم من الجنوح عن طريق الحق والعدل، وبذلك تكون شهادتها بالحق والعدل سبيلا لنجاة ونعيم من التزم العدل ونأى بنفسه عن الظلم، كما تكون بالمقابل سبيلا للهلاك لمن تنكب طريق النبوة واستهان ببيانها وبلاغها وظلم ورثتها.

              ولعل من أولى صفات وخصائص الشاهد أن يكون عدلا بذاته، يفقه العدل ويبينه، ويشهد به، وبشهادته العادلة تلك يقضى بين الناس، وبذلك يثبت الحق وينتفي الظلم وتسترد الحقوق، فهل تتحقق الأمة المسلمة، وريثة النبوة، اليوم بالعدل المتأتي من تعاليم النبوة، الذي يؤهلها للشهود الحضاري؟ وهل تفكر باسترداد دورها الإنساني، وتتأهل لتعيد قراءة العالم من حولها، وقراءة رسالتها، وتحديد موقعها في هذا العالم وكيفية التعامل معه وفق منهج الوحي، القرآن، ومعياره الميزان، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه؟ [ ص: 25 ]

              إن الحاجة اليوم إلى مراجعة الواقع الإسلامي البئيس، بمختلف جوانبه وشرائحه وممارساته، ومدى حمله لرسالة العدل، والتفكير الجاد بتصويب مساره وإدراكه واستجابته للجعل الإلهي واستئناف دوره في الشهود الحضاري أصبحت من مقومات الاستمرار للوجود الرسالي والإنسانية السعيدة، والحيلولة دون أمراض وعلل التقطيع في الأرض والتعرض للاستبدال، مصداقا لتحذيره تعالى: ( وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ) (الأعراف:168)، وقوله تعالى: ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) (محمد:38).

              فهـل يحسـن الصـالحون، الذين يمثلـون الطائفـة القـائمـة على الحـق، التي لا يضرها من خالفها، التحرك وامتلاك الوسائل الصحيحة ليشكلوا خميرة النهوض فيحققوا مزيدا من العدل في أنفسهم أولا، ليتأهلوا للشهادة على الناس ويقفوا سدا في وجه الظلم والظالمين؟

              إن التمحور المؤسف لمعظم العاملين للإسلام اليوم حول بعض المفهومات، من استحقاقات عقيدة التوحيد، وتركيز الحديث عن الحاكمية فقط، واستنفاد الجهود في المغالبة على السلطة، والتهاون في سبيل ذلك ببعض الأحكام والآداب والقيم الشرعية، وأحيانا انتهاكها والسقوط في مقولة: "الغاية تبرر الوسيلة"، أو السكوت عن انتهاك الحقوق والحرمات والمناصحة، في سبيل التجميع وبناء الزعامات الفاشلة هو اختزال وتخل عن المهمة الأساس وإساءة للمعنى الكبير والشامل لعقيدة التوحيد، التي تعني أول ما تعني تحقيق [ ص: 26 ] المساواة بين الناس، والتحقق بالعدل في السلوك والتعامل مع (الآخر)، وتوفير حرية الاختيار، وحفظ كرامة وحقوق الإنسان.

              لقد أدى غياب العدل والنكوص عن مهمة الجعل الإلهي: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ، في بعض فترات التاريخ الإسلامي، وذلك عندما انفصل السلطان عن القرآن ونقضت عروة الحكم، أول العرا، نقضا، إلى فقدان مقومات النصر والتمكين، وتحول النصر والاستقرار اليوم ليصبح من نصيب الدولة العادلة ولو كانت كافرة، والوهن والهزيمة والسقوط الحضاري للدولة الظالمة ولو كانت ترفع شعار الإيمان دون الالتزام بشعائره.

              وقـد يكون من الأهميـة بمـكان الإشـارة إلى الإدراك المبـكر للإمـام ابن تيميـة، رحمـه الله، لهـذه السـنة الاجتـمـاعـيـة، حـيـث يـقـول: "إن الناس لم يتنازعوا في: أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" (مجموع الفتاوى، رسالة في الحسبة)، رغم أن ذلك أمر افتراضي، فالظلم يتنافى في الأصل مع الإيمان الصحيح، أما الإيمان عمليا فقد يلتبس بظلم، وقد بينه الله بقوله: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) (الأنعام:82).

              من هنا ندرك الحـكمة الإلـهيـة العظيمـة والمقـاصـد الشـرعية الـكبرى من إيراد هذه المساحة التعبيرية الكبيرة في الكتاب والسنة، والتأكيد والتفصيل [ ص: 27 ] في مشـاهـد مصارع الظـالمـين ونـهاياتـهـم الفظيـعـة، الـتي تـكاد تـكون ناطـقـة وبمختلف الأساليب والقوالب التعبيرية، التي عالجت إشكالية الظلم، سواء في ذلك:

              ذكر الصفات السلبية في الإنسان وأهمية التنبه إليها: ( إن الإنسان لظلوم كفار ) (إبراهيم:34)، وكيفية التعامل معها من خلال بناء الإيمان، وحسن تربية النفس، وقوة الإرادة وإحكام الرقابة الذاتية، وإيقاظ الوازع الداخلي، والتحذير من المخاطر المترتبة من السكوت على الظلم، والإيمان بعدم التفلت من عقابيله، والمسؤولية عنه أمام الله، حتى ولو لم يعجل الله العقوبة في الدنيا،

              أو ممارسة الظلم والتسلط والإكراه والهيمنة والإلغاء وهدر الكرامة وأكل الحقوق والأموال وإشباع نزعات العدوان، وكيفيات التعامل معها من خلال العقوبات الرادعة والتشريعات الملزمة للحيلولة دون الظلم وامتداده.

              لذلك فقد لا يكون مستغربا التأكيد على مخاطر الظلم وحرمة أكل الحقـوق، وأهميـة تحقيق العـدل وحماية الحقوق، وعدم الظلم، هي المعاني والقيـم الكبرى، التي نبه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع، حيث وصية المـودع لأمتـه، الـذي توقع فيها أن لا يلقاهم بعد عامه ذلك، وعادة ما يتوقف المودع عند المعـاني الأسـاسية، التي بـها قوام الأمة وركيزة حياتـها والتي يخـاف إهمالها أو عدم تقديرها حق قدرها في الأمة، فتكون سببا في السقوط والانقراض: [ ص: 28 ]

              يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ( ...إن دماءكم وأموالكم... وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعـدي ضـلالا يضـرب بعـضـكم رقـاب بعـض ) (أخرجه البخاري)، ( ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) (أخرجه الإمام أحمد).

              إنها شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة وتربيته لها على الوسطية والاعتدال لتكون شهيدة على الناس: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء ) (البقرة:143).

              وبعد:

              فهذا الكتاب، يأتي في الوقت المناسب، ذلك أن براكين الظلم الكامنة والتي تتكرس من وقت بعيد، وتداعياته، باتت تتفجر في كل مكان تقريبا، وحممها تكاد تحرق الجميع، وفتنها ونارها لا تقتصر على من أوقدها وإنما تمتد لتطال حتى الأبرياء أيضا، وذلك بسبب تفريطهم وقعودهم عن الاضطلاع بمسؤوليتهم أو عجزهم المزمن، الذي حولهم وقودا لنار الظلم وامتداده، والله يقول: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ... ) (الأنفال:25).

              إن الخلل والاضطراب والعنف والتشدد والتطرف والإرهاب وكل هذه الظواهر، التي تطفو على سطح العالم اليوم هي في الحقيقة أعراض للمرض [ ص: 29 ] الأساس، الذي لا يريد أن يعترف به أحد، هي آثار وجراحات وإفرازات وانـدفـاعـات وردود أفـعـال للـمـرض الـرئيـس الكامن وراء إنشائها وإفرازها، إنه الظلم وغياب العدل، الظلم السياسي المتولد عن الاستعمار واستبـداد أنظمة ما بعد الاستعمار، والدكتاتورية والاستئثار بالسلطة، والظلم الاجتماعي، والاستـئـثـار بالـثـروة، والاستلاب الثقافي، والهيمنة الفكرية والإعلامية، وفرض الأنـمـاط والعـادات والأفـكار والأنساق المغايرة لثقافة الأمم، والتحدي الحضاري.

              إن إشكالية الظلم إشكالية مركبة، ذات أكثر من بعد، لذلك فشلت الحلول بسبب النظر إليها من بعد واحد، فالظلم والمظلومية التاريخية قد تصل بالمظلوم إلى حالات اليأس من الإصلاح والصلاح، وقد لا يجد المظلوم أمامه إلا رد الفعل، دون التدبر بعواقبه، خاصة عندما تتساوى في نظره الحياة والموت؛ لأنه في حالة موت وذل وسلب حقوق وهدر كرامة، حيث لا يبقى أمـامـه ما يخـشى عـليه، لا يبـقـى إلا الثـأر؛ والثـأر والانتـقـام والحقد أعمى لا يـبـصر، ولعنـة الـفـتـنـة لا تقتصر على من تسبب فيها ولا من أيقظها، وإنما تعم الجميع.

              إن الشكوى من التعصب والتشدد والعنف والإرهاب، تتطلب البحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك، فقد يكون على مخاطره ومساوئه وفظائعه نتيجة طبيعية لما يقبع وراءه من الظلم، وسوف تبقى إشكالية غياب العدل والنزوع إلى الحرية والعدل ومقارعة الظلم مستمرة، تخبو وتظهر كحال البراكين، [ ص: 30 ] تؤرق العالم، وتعبث بأمنه، وتأكل طاقاته المادية والبشرية، وتهدد أمنه وسلامه طالما استمر الظلم بمجالاته المتعددة، وطالما أننا نقتصر على معالجة الآثار الناتجة عنه بالقوة والبطش والقوانين والتشريعات والحلول الأمنية، أو بمعنى أوضح طالما أننا نعالج آثاره بالقوة، التي تؤدي إلى تعاظم الظلم بتكريس الظلم، وطالما أننا ما نزال نلقي القبض على المظلوم، ذلك أن الشجب والإدانة واستخدام وسيلة القوة والقمع في المعالجة والمزيد من القهر والظلم سوف يزيد من نار المواجهة، ويدفع المظلوم للجوء إلى المحاولات اليائسة لمواجهة القوة بالقوة والقهر بالقهر.

              ونحن بهذا لا نسوغ التشدد والتطرف والإرهاب، مهما كانت مسبباته، ولا نقر العنف والتشدد والتعصب والغلو، وإنما نحاول أن نضع أيدينا على مكمن الداء، حتى نتمكن من وصف الدواء، كما لا نقلل من أهمية معالجة الآثار بالوسائل الأمنية، وحماية المجتمع، وإن كان ذلك يبقى حلا مؤقتا لا يجوز أن يحول بيننا وبين التفتيش عن الحلول الناجعة والمستدامة.

              وقد يكون من المؤسف والمؤلم أن المؤسسات الدولية، التي أنشئت من أجل تأسيس العدل والأمن ومواجهة الظالمين والمجرمين والمعتدين تحولت إلى وسيلة بيد الأقوياء لممارسة مزيد من الظلم والتخويف والتعسف والانحياز وازدواج المعايير في استعمال القوانين، وذلك بخضوعها لرغبات دول الهيمنة ومصالحها وليس للمعاني والقيم الإنسانية. [ ص: 31 ]

              وقـد يـكون الأمـر الملفت والمريب معا أن هذه الاندفاعات البركانية تبـدو وكأنـهـا مستـوطنـة في عالـم المسلمين دون سواه، فهل سبب ذلك الحقد العداوة التاريخية لهذا الدين: ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة:217)؟ ونحن بهذا لا نريد أن نلقي بالتبعة على الآخرين لإعفاء (الذات) من التقصير والحيلولة دون المراجعة، وبيان أننـا مسـؤولون وأن الـذي يلحـق بنا إنـما هو من عند أنفسنا، في المحصلة النهائية.

              والمفارقة العجيبة أن معظم الذين يدعون أنهم يتصدون لمعالجة ظواهر الظلم هم من الذين يمارسون الظلم تاريخيا، فكيف نتصور أن يكون الخصم هو الحكم، والشاعر يقول:


              "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"؟



              والله غالب على أمره. [ ص: 32 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية