الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب تأويل قول الله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية وقوله عز وجل إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فأداء الأمانة أحق من تطوع الوصية وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا صدقة إلا عن ظهر غنى وقال ابن عباس لا يوصي العبد إلا بإذن أهله وقال النبي صلى الله عليه وسلم العبد راع في مال سيده

                                                                                                                                                                                                        2599 حدثنا محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال لي يا حكيم إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ثم إن عمر دعاه ليعطيه فيأبى أن يقبله فقال يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه الله [ ص: 444 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 444 ] قوله ( باب تأويل قوله تعالى : من بعد وصية يوصي بها أو دين ) أي بيان المراد بتقديم الوصية في الذكر على الدين مع أن الدين هو المقدم في الأداء . وبهذا يظهر السر في تكرار هذه الترجمة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية ) هذا طرف من حديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من طريق الحارث وهو الأعور عن علي بن أبي طالب قال : " قضى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الدين قبل الوصية ، وأنتم تقرءون الوصية قبل الدين " لفظ أحمد وهو إسناد ضعيف ، لكن قال الترمذي : إن العمل عليه عند أهل العلم ، وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه ، وإلا فلم تجر عادته أن يورد الضعيف في مقام الاحتجاج به ، وقد أورد في الباب ما يعضده أيضا ، ولم يختلف العلماء في أن الدين يقدم على الوصية إلا في صورة واحدة وهي ما لو أوصى الشخص بألف مثلا وصدقه الوارث وحكم به ثم ادعى آخر أن له في ذمة الميت دينا يستغرق موجوده وصدقه الوارث ففي وجه للشافعية تقدم الوصية على الدين في هذه الصورة الخاصة ، ثم قد نازع بعضهم في إطلاق كون الوصية مقدمة على الدين في الآية لأنه ليس فيها صيغة ترتيب بل المراد أن المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين ونفاذ الوصية ، وأتى بأو للإباحة وهي كقولك جالس زيدا أو عمرا ، أي لك مجالسة كل منهما اجتمعا أو افترقا ، وإنما قدمت لمعنى اقتضى الاهتمام لتقديمها واختلف في تعيين ذلك المعنى ، وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور : أحدها : الخفة والثقل كربيعة ومضر ، فمضر أشرف من ربيعة لكن لفظ ربيعة لما كان أخف قدم في الذكر ، وهذا يرجع إلى اللفظ . ثانيها : بحسب الزمان كعاد وثمود . ثالثها : بحسب الطبع كثلاث ورباع . رابعها : بحسب الرتبة كالصلاة والزكاة لأن الصلاة حق البدن والزكاة حق المال ، والبدن مقدم على المال ، خامسها : تقديم السبب على المسبب كقوله تعالى : عزيز حكيم قال بعض السلف عز فلما عز حكم . سادسها : بالشرف والفضل كقوله تعالى : من النبيين والصديقين . وإذا تقرر ذلك فقد ذكر السهيلي أن تقديم الوصية [ ص: 445 ] في الذكر على الدين لأن الوصية إنما تقع على سبيل البر والصلة بخلاف الدين فإنه إنما يقع غالبا بعد الميت بنوع تفريط فوقعت البداءة بالوصية لكونها أفضل . وقال غيره : قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين ، وكان أداؤها مظنة التفريط ، بخلاف الدين فإن الوارث مطمئن بإخراجه فقدمت الوصية لذلك .

                                                                                                                                                                                                        وأيضا فهي حظ فقير ومسكين غالبا ، والدين حظ غريم يطلبه بقوة وله مقال ، كما صح أن لصاحب الدين مقالا ، وأيضا فالوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدمت تحريضا على العمل بها بخلاف الدين فإنه ثابت بنفسه مطلوب أداؤه سواء ذكر أو لم يذكر . وأيضا فالوصية ممكنة من كل أحد ولا سيما عند من يقول بوجوبها فإنه يقول بلزومها لكل أحد فيشترك فيها جميع المخاطبين لأنها تقع بالمال وتقع بالعهد كما تقدم وقل من يخلو عن شيء من ذلك ، بخلاف الدين فإنه يمكن أن يوجد وأن لا يوجد ، وما يكثر وقوعه مقدم على ما يقل وقوعه . وقال الزين بن المنير : تقديم الوصية على الدين في اللفظ لا يقتضي تقديمها في المعنى لأنهما معا قد ذكرا في سياق البعدية ، لكن الميراث يلي الوصية في البعدية ولا يلي الدين بل هو بعد بعده فيلزم أن الدين يقدم في الأداء ثم الوصية ثم الميراث ، فيتحقق حينئذ أن الوصية تقع بعد الدين حال الأداء باعتبار القبلية ، فتقديم الدين على الوصية في اللفظ وباعتبار البعدية فتقدم الوصية على الدين في المعنى والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن عباس : لا يوصي العبد إلا بإذن أهله ) وصله ابن أبي شيبة من طريق شبيب بن غرقدة عن جندب قال : " سأل طهمان ابن عباس : أيوصي العبد ؟ قال : لا إلا بإذن أهله " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - العبد راع في مال سيده ) هو طرف من حديث تقدم ذكره موصولا في " باب كراهية التطاول على الرقيق " من كتاب العتق من حديث نافع عن ابن عمر ، وأراد البخاري بذلك توجيه كلام ابن عباس المذكور ، قال ابن المنير : لما تعارض في مال العبد حقه وحق سيده قدم الأقوى وهو حق السيد ، وجعل العبد مسئولا عنه ، وهو أحد الحفظة فيه ، فكذلك حق الدين لما عارضه حق الوصية - والدين واجب والوصية تطوع - وجب تقديم الدين ، فهذا وجه مناسبة هذا الأثر والحديث للترجمة . ثم أورد المصنف في الباب حديثين .

                                                                                                                                                                                                        أحدهما : حديث حكيم بن حزام إن هذا المال خضر حلو الحديث ، وقد تقدم مشروحا في كتاب الزكاة ، قال ابن المنير : وجه دخوله في هذا الباب من جهة أنه - صلى الله عليه وسلم - زهده في قبول العطية ، وجعل يد الآخذ سفلى تنفيرا عن قبولها ، ولم يقع مثل ذلك في تقاضي الدين ، فالحاصل أن قابض الوصية يده سفلى ، وقابض الدين مستوف لحقه ، إما أن تكون يده عليا بما تفضل به من القرض ، وإما أن لا تكون يده سفلى فيتحقق بذلك تقديم الدين على الوصية .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية